تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ} (2)

الآية 2 وقوله تعالى : { هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم } احتج أهل الكتاب علينا أن الله تعالى إنما بعث محمدا رسولا إلى الأمّيّن خاصة بهذه الآية ، وفهموا منها تخصيص الأميين بإرسال الرسول إليهم ، فيقتضي نفيه عن غيرهم .

ولكن نقول : لا يحب أن يفهم من الآية نفي ما ذكر في ظاهرها بل يفهم منها ظاهرها دون النفي ، والتخصيص بالذكر لا يحتمل لأنه إذا حمل التخصيص بالذكر على نفي غيره أدى إلى ما لا يستقيم ، ولا يحل .

ألا ترى إلى قوله : { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } ؟ [ العنكبوت : 48 ] حين{[21195]} لم يفهم أنه لم يخطه بيمينه إن كان خطه بشماله ، ولا من قوله : { وما كنت تتلوا } أنه كان يتلى عليه .

ولكن المعنى من ذلك كله ، والله أعلم ، أن الله بعث رسوله أميا في قوم أميين ، لا يعلمون الحكمة وماهيتها ، وجعل ذلك آية لرسالته وحجة لنبوته ، لأنه إذا كان أميا ، لا يكتب ، ولا يقرأ الكتب ، ثم أتاهم [ بالكتاب مؤلفا منظوما ]{[21196]} يوافق كتب أهل الكتاب ، دل أنه إنما علم ذلك بالوحي ، وأنه لم يختلقه من عند نفسه ، والله أعلم .

ثم الدليل على أنه كان رسولا إليهم جميعا قوله تعالى : { وما أرسلناك إلا كآفة للناس بشيرا ونذيرا } [ سبأ : 28 ]

وما روي عنه عليه السلام أنه قال : ( بعثت إلى الحمر والأسود ) [ مسلم/ 5201 ] يعني إلى الإنس والجن ، ولأجل أنه لما بعث إلى طائفة ليدعوهم إلى طاعة الله تعالى وعبادته علم أنه رسول إلى غيرهم ؛ إذ لم يكن لهم رسول آخر ، لأن الطائفة الأخرى إن لم يكن رسول آخر ، واحتاجوا إلى معرفة الأمر والنهي وإلى طاعة الرحمن حاجة الطائفة التي بعث إليهم ، دل أنه رسول إليهم جميعا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { بعث في الأميين رسولا منهم } معناه أنه بعث صلى الله عليه وسلم في قوم أميين ، لا يعرفون عبادة الله ، ولا يقرؤون الكتاب ، بل كانت عبادتهم عبادة الأصنام .

وقيل في تأويل الأميين : هم الذين لم يؤمنوا بالكتب . ولكن هذا فساد ، لأن الله تعالى سمى نبيه عليه السلام أميا بقوله : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } [ الأعراف : 157 ] .

وقيل : سماهم أميين لأنهم لا يقرؤون عن الكتاب ، ولا يكتبون على الأعم الأغلب ، وإن كان فيهم القليل ممن يقرأ ، ويكتب ، ومن هذا سمي النبي صلى الله عليه وسلم أميا لأنه كان لا يكتب ، ولا يقرأ عن كتاب ، ولم يعلم ذلك . قال الله تعالى : { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } [ العنكبوت : 48 ] .

وعلى ذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه قال : ]{[21197]} ( الشهر كذا ، وأشار بأصابعه ) [ مسلم 1080/ 13 ] وقال : ( إنما نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب ) [ البخاري 1913 ] .

وقال الزجاج : الأمي ، هوالذي لا يحسن القراءة والكتابة ، ولم يتعلم ، ويكون على ما سقط من أمه ، فنسب إلى حال ولادته التي سقط من أمه ، لأن ذلك إنما يكون بالتعليم دون الحال التي يجري عليها المولود .

ثم وجه الحكمة في جعل النبوة في الأمي أن يكون ذلك سبب معرفة نبوته وعلامة رسالته بحيث يعلم أنه ما اخترع من ذات نفسه ، إذ لم يعرف الكتابة والقراءة ، ولا اختلف إلى أحد ليتعلم منه .

ثم أحوج جميع الحكماء إلى حكمته ، وجميع أهل الكتاب إلى معرفة كتابه لحسن نظمه وتأليفه ليعلم أنه إنما ناله بالوحي والرسالة ، والله أعلم .

وقله تعالى : { يتلوا عليهم آياته } الآيات الأعلام ؛ فكأنه يقول : يتلو عليهم في كتابه أعلاما تبين رسالته ، وتظهر نبوته . أو يجوز أن تكون الآيات الحلال والحرام وما أشبههما{[21198]} أو الآيات : الحجج التي يستظهر بها الحق ، والله اعلم .

وقوله تعالى : { ويزكيهم } قال بعضهم : يصلحهم ؛ يعني يدعوهم إلى اتباع ما يصيرون أزكياء أتقياء .

ويجوز[ أن يكون ]{[21199]} معنى قوله : { ويزكيهم } أي يطهرهم من خبث الشرك وخبث الأخلاق وخبث الأقوال والأفعال{[21200]} ، والله أعلم .

وقله تعالى : { ويعلمهم الكتاب والحكمة } اختلفوا فيه : قال الحسن : هذا كلام : مثنى الكتاب والحكمة ، واحد . وقال أبو بكر : الكتاب ما يتلى من الآيات ، والحكمة هي الفرائض .

وقال بعضهم : الحكمة ، هي السنة ، لأنه كان يتلو عليهم آياته ، ويعلمهم سنته إما بلطف{[21201]} من الله تعالى وإلهامه إياه [ وإما ]{[21202]} بالوحي .

ومنهم من قال : الكتاب ما يتلى من الآيات نصا ، والحكمة ما أودع فيها من المعاني : أي ذلك كان .

وقوله تعالى : { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } أي إنهم كانوا عن الكتاب والحكمة لفي ضلال بيّن ظاهر ، لأنهم كانوا مشركين عبدة الأصنام ، ليس عندهم كتاب ، ولا يعرفون الحكمة .

ويحتمل أن يكون معنى قوله : { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } أي في الشرك وعبادة الأصنام ، فدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى توحيده وترك ما هم فيه من عبادة الأصنام .

قال الفقيه ، رحمة الله عليه : وفي قوله تعالى : { ويعلمهم الكتاب والحكمة } أن الله تعالى إذ جعلهم أتقياء أزكياء علماء بعد / 568 – ب ا كانوا أميين جهّالا سفهاء ، آية ودلالة على حقية دينه عليه السلام على سائر الأديان حين{[21203]} لم يكن أهلها كذلك ، ويكون فيه ترغيب{[21204]} للآخرين ليصيروا علماء حكماء .

وقوله تعالى : { ويعلمهم } يجوز أن يكون هذا تعليما من الله تعالى ، أنه جعلهم علماء بعد ما كانوا جهلاء وحكماء بعد ما كانوا سفهاء وأزكياء بعد ما كانوا أنجاسا وأقذارا عبدة الأوثان ، وذلك من لطف الله تعالى .

ثم الأصل أن ما أضيف من هذه الأفعال إلى الله تعالى ، فهو على حقيقة الوجود ، وما أضيف إلى الرسول عليه السلام فهو على الأسباب ؛ وذلك أنه لا يجوز أن يعلم الله تعالى أحدا ، فلا يصير عالما ، لأن تعليمه خلق العلم في المحل الذي أراد ، وخلق{[21205]} ، يكون لا محالة .

فأما [ ما ]{[21206]} يجوز أن يعلمه البشر ، فلا يتعلمه ، لأن تعليمه بسبب ، لأنه ليس له قدرة الخلق والإيجاد ، فثبت أنه على جهة السبب ، والله الموفق .


[21195]:في الأصل وم: حيث
[21196]:في الأصل وم: الكتاب مؤلف منظوم.
[21197]:ساقطة من الأصل وم.
[21198]:في الأصل وم: أشبهه.
[21199]:ساقطة من الأصل وم.
[21200]:ساقطة من م.
[21201]:من م، في الأصل: بلطفه.
[21202]:في الأصل وم: أو.
[21203]:في الأصل وم: حيث
[21204]:في الأصل وم: ترغيبا.
[21205]:أدرج قبلها في م: وما أراد.
[21206]:ساقطة من الأصل وم.