ثم بين - سبحانه - بعض أحوالهم عندما يحشرون يوم القيامة ، فقال - تعالى - : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ . . . } .
الحشر : الجمع ، والمراد به جمعهم يوم القيامة لحسابهم على أعمالهم الدنيوية .
والمعنى : واذكر لهم أيها الرسول الكريم - ليعتبروا ويتعظوا - حالهم يوم نجمعهم جميعاً فى الآخرة لنحاسبهم على أقوالهم وأفعالهم ، ثم نسالهم سؤال إفضاح لا إيضاح - كما يقول القرطبى - : أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون أنهم شفعاء لكى يدافعوا عنكم فى هذا اليوم العصيب .
و { يَوْمَ } منصوب على الظرفية بفعل مضمر بعده أى : ويوم نحشرهم كان كذا وكذا ، وحذف هذا الفعل من الكلام ليبقى على الإبهام الذى هو أدخل فى التخويف والتهويل ، وقيل إنه منصوب على أنه مفعول به بفعل محذوف قبله والتقدير ، واذكر يوم نحشرهم ، أى : اذكر هذا اليوم من حيث ما يقع فيه ، والضمير فى { نَحْشُرُهُمْ } للذين افتروا على الله كذبا ، أو كذبوا بآياته .
وفائدة كلمة { جَمِيعاً } رفع احتمال التخصيص ، أى : أن جميع المشركين ومعبوداتهم سيحشرون أمام الله للحساب .
وكان العطف بثم لتعدد الوقائع قبل هذا الخطاب الموجه للمشركين ، إذ قبل ذلك سيكون قيامهم من قبورهم ، ويكون هول الموقف ، ويكون إحصاء الأعمار وقراءة كل امرىء لكتابه . . . الخ ، ثم يقول الله - تعالى - { لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } ؟
ووبخهم - سبحانه - بقوله : { أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ } مع أنهم محشورون معهم ، لأنهم لا نفع يرجى من وجودهم معهم ، فلما كانوا كذلك نزلوا منزلة الغائب كما تقول لمن جعل أحداً ظهيراً يعينه فى الشدائد إذا لم يعنه كوقد وقع فى ورطة بحضرته أين فلان ؟ فتجعله لعدم نفعه - وإن كان حاضراً - كالغائب .
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا } يوم القيامة فيسألهم عن الأصنام والأنداد التي كانوا يعبدونها من دونه قائلا [ لهم ]{[10609]} { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } كما قال تعالى في سورة القصص : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الآية : 62 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمّ نَقُولُ لِلّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : إن هؤلاء المفترين على الله كذبا والمكذّبين بآياته ، لا يفلحون اليوم في الدنيا ولا يوم نحشرهم جميعا ، يعني : ولا في الاَخرة . ففي الكلام محذوف قد استغني بذكر ما ظهر عما حذف .
وتأويل الكلام : إنه لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعا فقوله : «ويوم نحشرهم » ، مردود على المراد في الكلام ، لأنه وإن كان محذوفا منه فكأنه فيه لمعرفة السامعين بمعناه . ثم نَقُولُ للّذِينَ أشْرَكُوا أيْنَ شُرَكاؤُكُم يقول : ثم نقول إذا حشرنا هؤلاء المفترين على الله الكذب بادّعائهم له في سلطانه شريكا والمكذّبين بآياته ورسله ، فجمعنا جميعهم يوم القيامة : أيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم لكم آلهة من دون الله ، افتراء وكذبا ، وتدعونهم من دونه أربابا ، فأتوا بهم إن كنتم صادقين .
قالت فرقة : { لا يفلح الظالمون } [ الأنعام : 21 ] كلام تام معناه لا يفلحون جملة ، ثم استأنف فقال : واذكر يوم نحشرهم ، وقال الطبري المعنى لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا { ويوم نحشرهم } عطفاً على الظرف المقدر والكلام متصل ، وقرأت طائفة «نحشرهم » و «نقول » بالنون ، وقرأ حميد ويعقوب فيهما بالياء ، وقرأ عاصم هنا وفي يونس قبل الثلاثين{[4862]} «نحشرهم ونقول » بالنون ، وقرأ في باقي القرآن بالياء ، وقرأ أبو هريرة «نحشِرهم » بكسر الشين فيجيء الفعل على هذا حشر يحشر ويحشر ، واضاف الشركاء إليهم لأنه لا شركة لهم في الحقيقة بين الأصنام وبين شيء ، وإنما وقع عليها اسم الشريك بمجرد تسمية الكفرة فأضيفت إليهم لهذه النسبة و { تزعمون } معناه تدعون أنهم لله ، والزعم القول الأميل إلى الباطل والكذب في أكثر كلامهم ، وقد يقال زعم بمعنى ذكر دون ميل إلى الكذب ، وعلى هذا الحد يقول سيبويه زعم الخليل ، ولكن ذلك إنما يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته على قائله .
عطف على جملة : { ومن أظلم ممّن افترى على الله كذباً } [ الأنعام : 21 ] ، أو على جملة { إنّه لا يفلح الظالمون } [ الأنعام : 21 ] ، فإنّ مضمون هذه الجمل المعطوفة له مناسبة بمضمون جملة { ومن أظلم } ومضمون جملة { إنّه لا يفلح الظالمون } ، لأنّ مضمون هذه من آثار الظلم وآثار عدم الفلاح ، ولأنّ مضمون الآية جامع للتهديد على الشرك والتكذيب ولإثبات الحشر ولإبطال الشرك .
وانتصب { يومَ } على الظرفية ، وعامله محذوف ، والأظهر أنّه يقدّر ممَّا تدلّ عليه المعطوفات وهي : نقول ، أو قالوا ، أو كذّبوا ، أو ضلّ ، وكلّها صالحة للدلالة على تقدير المحذوف ، وليست تلك الأفعال متعلّقاً بها الظرف بل هي دلالة على المتعلّق المحذوف ، لأنّ المقصود تهويل ما يحصل لهم يوم الحشر من الفتنة والاضطراب الناشئين عن قول الله تعالى لهم : { أين شركاؤكم } ، وتصوير تلك الحالة المهولة .
وقدّر في « الكشاف » الجواب ممَّا دلّ عليه مجموع الحكاية . وتقديره : كان ما كان ، وأنَّ حذفه مقصود به الإبهام الذي هو داخل في التخويف . وقد سلك في هذا ما اعتاده أئمَّة البلاغة في تقدير المحذوفات من الأجوبة والمتعلّقات . والأحسن عندي أنّه إنَّما يصار إلى ذلك عند عدم الدليل في الكلام على تعيين المحذوف وإلاّ فقد يكون التخويف والتهويل بالتفصيل أشدّ منه بالإبهام إذا كان كلّ جزء من التفصيل حاصلاً به تخويف . وقدّر بعض المفسّرين : اذكر يوم نحشرهم . ولا نكتة فيه . وهنالك تقديرات أخرى لبعضهم لا ينبغي أن يعرّج عليها .
والضمير المنصوب في { نحشرهم } يعود إلى { من افترى على الله كذباً } [ الأنعام : 21 ] أو إلى { الظالمون } [ الأنعام : 21 ] إذ المقصود بذلك المشركون ، فيؤذن بمشركين ومشرَك بهم . وللتنبيه على أنّ الضمير عائد إلى المشركين وأصنامهم جيء بقوله : { جميعاً } ليدلَّ على قصد الشمول ، فإنَّ شمول الضمير لجميع المشركين لا يتردّد فيه السامع حتى يحتاج إلى تأكيده باسم الإحاطة والشمول ، فتعيّن أنّ ذكر { جميعاً } قصد منه التنبيه . على أنّ الضمير عائد إلى المشركين وأصنامهم ، فيكون نظير قوله : { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم } [ يونس : 28 ] وقوله : { ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله } [ الفرقان : 17 ] وانتصب { جميعاً } هنا على الحال من الضمير .
والمقصود من حشر أصنامهم معهم أن تظهر مذلّة الأصنام وعدم جدواها كما يحشر الغالب أسرى قبيلة ومعهم من كانوا ينتصرون به ، لأنّهم لو كانوا غائبين لظنّوا أنّهم لو حصروا لشفعوا ، أو أنّهم شغلوا عنهم بما هم فيه من الجلالة والنعيم ، فإنّ الأسرى كانوا قد يأملون حضور شفائعهم أو من يفاديهم . قال النابغة :
وعطف { نقولُ } بِ { ثم } لأنّ القول متأخّر عن زمن حشرهم بمهلة لأنّ حصّة انتظار المجرم ما سيحلّ به أشدّ عليه ، ولأنّ في إهمال الاشتغال بهم تحقيراً لهم .
وتفيد { ثم } مع ذلك الترتيب الرتبي .
وصرّح بِ { الذين أشركوا } لأنّهم بعض ما شمله الضمير ، أي ثم نقول للذين أشركوا من بين ذلك الجمع .
وأصل السؤال ب { أين } أنَّه استفهام عن المكان الذي يحلّ فيه المسند إليه ، نحو : أين بيتك ، وأين تذهبون . وقد يسأل بها عن الشيء الذي لا مكان له ، فيراد الاستفهام عن سبب عدمه ، كقول أبي سعيد الخدري لمروان بن الحكم حين خرج يوم العيد فقصد المنبر قبل الصلاة { أين تقديم الصلاة } . وقد يسأل ب { أين } عن عمل أحد كان مرجوّاً منه ، فإذا حضر وقته ولم يحصل منه يسأل عنه بِ { أين } ، كأنّ السائل يبحث عن مكانه تنزيلاً له منزلة الغائب المجهول مكانه ؛ فالسؤال ب { أين } هنا عن الشركاء المزعومين وهم حاضرون كما دلّت عليه آيات أخرى . قال تعالى : { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله } [ الصافات : 22 ] .
والاستفهام توبيخي عمّا كان المشركون يزعمونه من أنّها تشفع لهم عند الله ، أو أنّها تنصرهم عند الحاجة ، فلمّا رأوها لا غناء لها قيل لهم : أين شركاؤكم ، أي أين عملهم فكأنّهم غُيّب عنهم .
وأضيف الشركاء إلى ضمير المخاطبين إضافة اختصاص لأنّهم الذين زعموا لهم الشركة مع الله في الإلهية فلم يكونوا شركاء إلاّ في اعتقاد المشركين ، فلذلك قيل { شركاؤكم } . وهذا كقول أحد أبطال العرب لعَمرو بن معد يكرب لمّا حدّث عمرو في جمع أنّه قتله ، وكان هو حاضراً في ذلك الجمع ، فقال له : « مَهْلاً أبا ثور قتيلك يسمع » ، أي المزعوم أنّه قتيلك .
ووصفوا ب { الذين كنتم تزعمون } تكذيباً لهم ؛ وحذف المفعول الثاني ل { تزعمون } ليعمّ كلّ ما كانوا يزعمونه لهم من الإلهية والنصر والشفاعة ؛ أمّا المفعول الأول فحذف على طريقة حذف عائد الصلة المنصوب .
والزعم : ظنّ يميل إلى الكذب أو الخطأ أو لغرابته يتّهم صاحبه ، فيقال : زعم ، بمعنى أنّ عهدة الخبر عليه لا على الناقل ، وتقدّم عند قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون } الآية في سورة [ النساء : 60 ] . وتأتي زيادة بيان لمعنى الزعم عند قوله تعالى : { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا } في سورة [ التغابن : 7 ] .