ثم حكى - سبحانه - ما يقوله هؤلاء الكافرون لجوارحهم على سبيل التوبيخ والتعجيب فقال : { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا . . }
أى : وقال هؤلاء الكافرون لجلودهم التى تشمل جميع جوارحهم بتعجب وذهول : لماذا شهدتم علينا مع أننا ما دافعنا إلا عنكم ، لكى ننقذكم من النار ؟
وهنا ترد عليهم جوارهم بقولها - كما حكى سبحانه عنها - { قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ . . . }
أى : قالوا فى الرد عليهم : أنطقنا الله - تعالى - الذى أنطق كل شئ بقدرته التى لا يعدزها شئ { وهو } - سبحانه - الذى { خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ولم تكونوا شيئا مذكورا .
{ وَإِلَيْهِ } وحده { تُرْجَعُونَ } فيحاسبكم على أعمالكم ، ويحكم فيكم بحكمه العادل .
وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية عددا من الأحاديث ، منها ما جاء عن أنس ابن مالك - رضى الله عنه - قال : " ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وتبسم فقال : " ألا تسألون عن أى شئ ضحكت " ؟ قالوا : يا رسول الله ، من أى شئ ضحكت ؟ قال : " عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة ، يقول : أى ربى ، أليس قد وعدتنى أن لا تظلمنى ؟ قال : بلى . فيقول : فإنى لا أقبل على شاهدا إلا من نفسى . فيقول الله - تعالى - : أو ليس كفى بى شهيدا . وبالملائكة الكرام الكاتبين ؟ قال : فيردد هذا الكلام مرارا قال : فيختم على فيه ، وتتكلم أركانه بما كان يعمل . فيقول : بعدا لكن وسحقا ، فعنكن كنت أجادل " " .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }
{ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا } أي : لاموا أعضاءهم وجلودهم حين شهدوا عليهم ، فعند ذلك أجابتهم الأعضاء : { قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : فهو لا يخالف ولا يمانع ، وإليه ترجعون .
قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا علي بن قادم ، حدثنا شريك ، عن عبيد المُكْتَب ، عن الشعبي {[25659]} ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وتبسم{[25660]} ، فقال : " ألا تسألوني عن أي شيء ضحكت ؟ " قالوا : يا رسول الله من أي شيء ضحكت ؟ قال : " عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة ، يقول : أي ربي ، أليس وعدتني ألا تظلمني ؟ قال : بلى فيقول : فإني لا أقبل عليّ شاهدا إلا من نفسي . فيقول الله تبارك وتعالى : أو ليس كفى بي شهيدا ، وبالملائكة الكرام الكاتبين ؟ ! قال : فيردد هذا الكلام مرارا " . قال : " فيختم على فيه ، وتتكلم أركانه بما كان يعمل ، فيقول : بُعْدًا لكُنَّ وسُحقا ، عنكن كنت أجادل " .
ثم رواه {[25661]} هو وابن أبي حاتم ، من حديث أبي عامر الأسدي ، عن الثوري ، عن عُبيد المُكْتَب ، عن فُضيل بن عمرو ، عن الشعبي {[25662]} ثم قال : " لا نعلم رواه عن أنس غير الشعبي " . وقد أخرجه مسلم والنسائي جميعا عن أبي بكر بن أبي النضر ، عن أبي النضر ، عن عُبَيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي ، عن الثوري به{[25663]} . ثم قال النسائي : " لا أعلم أحدا رواه عن الثوري غير الأشجعي " . وليس كما قال كما رأيت ، والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن إبراهيم ، حدثنا إسماعيل بن عُلَّية ، عن يونس ابن عُبَيْد ، عن حُميد بن هلال قال : قال أبو بُرْدَة : قال أبو موسى : ويدعى الكافر والمنافق للحساب ، فيعرض عليه ربه - عز وجل - عمله ، فيجحد ويقول : أي رب ، وعزتك لقد كتب على هذا الملك ما لم أعمل ! فيقول له الملك : أما عملت كذا ، في يوم كذا ، في مكان كذا ؟ فيقول : لا وعزتك ، أي رب ما عملته . [ قال ] {[25664]} فإذا فعل ذلك خُتِم على فيه - قال الأشعري : فإني لأحسب أول ما ينطق منه فخذه اليمنى .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا زُهَيْر حدثنا حسن ، عن ابن لَهِيعة : قال دَرّاج عن أبي الهيثم{[25665]} عن أبى سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم القيامة عُرّف الكافر بعمله ، فجحد وخاصم ، فيقال : هؤلاء جيرانك ، يشهدون عليك ؟ فيقول : كذبوا . فيقول : أهلك [ و ] {[25666]} عشيرتك ؟ فيقول : كذبوا . فيقول : احلفوا فيحلفون ، ثم يصمتهم الله وتشهد عليهم ألسنتهم ، ويدخلهم النار " {[25667]} .
وقال ابن أبي حاتم : وحدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن إبراهيم ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث : سمعت أبي : حدثنا علي بن زيد ، عن مسلم بن صُبيْح أبي الضُّحى ، عن ابن عباس : أنه قال لابن الأزرق : إن يوم القيامة يأتي على الناس منه حين ، لا ينطقون ولا يعتذرون ولا يتكلمون حتى يؤذن لهم ، ثم يؤذن لهم فيختصمون ، فيجحد الجاحد بشركه بالله ، فيحلفون له كما يحلفون لكم ، فيبعث الله عليهم حين يجحدون شهداء من أنفسهم ، جلودهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم ، ويختم على أفواههم ، ثم يفتح لهم الأفواه فتخاصم الجوارح ، فتقول : { أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فتقر الألسنة بعد الجحود .
وقال {[25668]} ابن أبي حاتم : حدثنا عبدة بن سليمان ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير الحضرمي ، عن رافع أبي الحسن - وصف رجلا جحد - قال : فيشير الله إلى لسانه ، فيربو في فمه{[25669]} حتى يملأه ، فلا يستطيع أن ينطق بكلمة ، ثم يقول لآرابه {[25670]} كلها : تكلمي واشهدي عليه . فيشهد عليه سمعه وبصره وجلده ، وفرجه ويداه ورجلاه : صنعنا ، عملنا ، فعلنا .
وقد تقدم أحاديث كثيرة ، وآثار عند قوله تعالى في سورة يس : { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ يس : 65 ] ، بما أغنى عن إعادته هاهنا .
وقال ابن أبي حاتم - رحمه الله - : حدثنا أبي ، حدثنا سويد بن سعيد ، حدثنا يحيى بن سُلَيم الطائفي ، عن ابن خُثَيْم ، عن أبي الزبير{[25671]} ، عن جابر بن عبد الله قال : لما رجعت إلى النبي {[25672]} صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر قال : " ألا تحدثون بأعاجيب {[25673]} ما رأيتم بأرض الحبشة ؟ " فقال فتية منهم : بلى يا رسول الله ، بينا {[25674]} نحن جلوس إذ مرت علينا عجوز من عجائز رهابينهم ، تحمل على رأسها قلة من ماء ، فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ، ثم دفعها فخرت على ركبتيها ، فانكسرت قلتها . فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت : سوف تعلم يا غُدَر ، إذا وضع الله الكرسي ، وجمع الأولين والآخرين ، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون ، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدا ؟ قال : يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صَدَقَتْ [ و ] {[25675]} صدقت ، كيف يُقدس الله قوما لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم ؟ " .
هذا حديث غريب من هذا الوجه . ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الأهوال : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال : أخبرنا يحيى بن سليم ، به{[25676]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتّمْ عَلَيْنَا قَالُوَاْ أَنطَقَنَا اللّهُ الّذِي أَنطَقَ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلََكِن ظَنَنتُمْ أَنّ اللّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمّا تَعْمَلُونَ } .
** يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء الذين يحشرون إلى النار من أعداء الله سبحانه لجلودهم إذ شهدت عليهم بما كانوا في الدنيا يعملون : لم شهدتم علينا بما كنا نعمل في الدنيا ؟ فأجابتهم جلودهم : أنْطَقَنا اللّهَ الّذِي أَنْطَقَ كُلّ شَيْءٍ فنطقنا وذُكر أن هذه الجوارح تشهد على أهلها عند استشهاد الله إياها عليهم إذا هم أنكروا الأفعال التي كانوا فعلوها في الدنيا بما يسخط الله ، وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر الأخبار التي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا أحمد بن حازم الغفاريّ ، قال : أخبرنا عليّ بن قادم الفزاري ، قال : أخبرنا شريك ، عن عبيد المُكْتِب ، عن الشعبيّ ، عن أنس ، قال : ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم حتى بدت نواجذه ، ثم قال : «ألا تَسْأَلُونِي ممّ ضَحِكْتُ ؟ » قالوا : ممّ ضحكت يا رسول الله ؟ قال : «عَجِبْتُ مِنْ مُجَادَلَةِ العَبْدِ رَبّهُ يَوْمَ القِيامَةِ قال : يقُولُ : يا رَبّ ألَيْسَ وَعَدْتَنِي أنْ لا تَظْلِمَنِي ؟ قالَ : فإنّ لَكَ ذلكَ ، قال : فإنّي لا أقْبَلُ عَليّ شاهِدا إلاّ مِنْ نَفْسِي ، قالَ : أوَلَيْس كَفَى بِي شَهِيدا ، وَبالمَلائِكَةِ الكِرَامِ الكاتبين ؟ قالَ فَيُخْتَمُ عَلى فِيهِ ، وَتَتَكَلّمُ أرْكانُهُ بِمَا كانَ يَعْمَلُ ، قالَ : فَيَقُولُ لَهُنّ : بُعْدا لَكُنّ وسُحْقا ، عَنْكُنّ كُنْتُ أُجادِلُ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عبيد المكتب ، عن فضيل بن عمرو ، عن الشعبي ، عن أنس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثني عباس بن أبي طالب ، قال : حدثنا يحيى بن أبي بكر ، عن شبل ، قال : سمعت أبا قزعة يحدّث عمرو بن دينار ، عن حكيم بن معاوية ، عن أبيه ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال ، وأشار بيده إلى الشأم ، قال : «ها هُنا إلى ها هُنا تُحْشَرُونَ رُكْبانا وَمُشاةً على وُجُوهِكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ ، على أفْوَاهِكُم الفِدامُ ، تُوَفّونَ سَبْعِين أُمّةً أنْتُمْ آخِرُها وأكْرَمُها على اللّهِ ، وإن أوّلَ ما يُعْرِبُ مِنْ أحَدكُمْ فَخِذُهُ » .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا الجريري ، عن حكيم بن معاوية ، عن أبيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «تَجِيئُونَ يَوْمَ القِيامَةِ على أفْوَاهِكُمْ الفِدَامُ ، وإنّ أوّلَ ما يَتَكَلّمُ مِنَ الاَدِمي فَخِذُهُ وكَفّهُ » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن بَهْز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جدّه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مالي أُمْسِكُ بحَجزِكُمْ مِنَ النّارِ ؟ ألا إن رَبّي داعيّ وإنّهُ سائلي هَلْ بَلّغْتُ عِبادَهُ ؟ وإنّي قائِلٌ : رَبّ قَدْ بَلّغْتُهُمْ ، فَيُبَلّغ شاهِدُكُمْ غائِبَكُمْ ، ثُمّ إنّكُمْ مُدّعُونَ مُقَدّمَةً أفْوَاهُكُمْ بالفِدامِ ، ثُمّ إنّ أوّلَ ما يُبِينُ عَنْ أحْدِكَمْ لَفَخِذُهُ وكَفّهُ » .
حدثني محمد بن خلف ، قال : حدثنا الهيثم بن خارجة ، عن إسماعيل بن عياش ، عن ضمضم بن زُرْعة ، عن شريح بن عبيد ، عن عقبة ، سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : «إنّ أوّلَ عَظْم تَكَلّمَ مِنَ الإنْسانِ يَوْمَ يُخْتَمُ على الأفْوَاهِ فَخِذُهُ مِنَ الرّجْلِ الشمال » .
وقوله : وَهُوَ خَلَقَكُمْ أوّلَ مَرّةٍ يقول تعالى ذكره : والله خلقكم الخلق الأوّل ولم تكونوا شيئا ، وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ يقول : وإليه مصيركم من بعد مماتكم ، وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ في الدنيا أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ يوم القيامة سَمْعُكُمْ وَلا أبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ ، فقال بعضهم : معناه : وما كنتم تستَخْفُون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ : أي تَسْتَخْفُون منها .
وقال آخرون : معناه : وما كنتم تتقون . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ قال : تتقون .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وما كنتم تظنون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ يقول : وما كنتم تظنون أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أبْصَارُكُمْ حتى بلغ كَثِيرا مِمّا كنتم تَعْملَونَ ، والله إن عليك با ابن آدم لشهودا غير متهمة من بدنك ، فراقبهم واتق الله في سرّ أمرك وعلانيتك ، فإنه لا يخفى عليه خافية ، الظلمة عنده ضوء ، والسرّ عنده علانية ، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظنّ فليفعل ، ولا قوّة إلا بالله .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : وما كنتم تستَخْفُون ، فتتركوا ركوب محارم الله في الدنيا حذرا أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم اليوم .
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، لأن المعروف من معاني الاستتار الاستخفاء .
فإن قال قائل : وكيف يستخفى الإنسان عن نفسه مما يأتي ؟ قيل : قد بيّنا أن معنى ذلك إنما هو الأماني ، وفي تركه إتيانه إخفاؤه عن نفسه .
وقوله : وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أنّ اللّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرا مِمّا كنتم تَعْمَلُونَ يقول جلّ ثناؤه : ولكن حسبتم حين ركبتم في الدنيا من معاصي الله أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون من أعمالكم الخبيثة ، فلذلك لم تستتروا أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم وجلودكم ، فتتركوا ركوب ما حرّم الله عليكم .
وذُكر أن هذه الاَية نزلت من أجل نفر تدارَؤا بينهم في علم الله بما يقولونه ويتكلمون سرّا . ذكر الخبر بذلك .
حدثني محمد بن يحيى القطعي ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا قيس ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي معمر الأزدي ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : كنت مستترا بأستار الكعبة ، فدخل ثلاثة نفر ، ثَقَفيان وقُرشيّ ، أو قُرشيان وثَقَفى ، كثير شحوم بطونهما ، قليل فقه قلوبهما ، فتكلموا بكلام لم أفهمه ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول ؟ فقال الرجلان : إذا رفعنا أصواتنا سمع ، وإذا لم نرفع لم يسمع ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرت له ذلك ، فنزلت هذه الاَية : وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أبْصَارُكُمْ . . . إلى آخر الاَية .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن وهب بن ربيعة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : إني لمستتر بأستار الكعبة ، إذ دخل ثلاثة نفر ، ثقفي وختناه قرشيان ، قليل فقه قلوبهما ، كثير شحوم بطونهما ، فتحدثوا بينهم بحديث ، فقال أحدهم : أترى الله يسمع ما قلنا ؟ ، فقال الاَخر : إنه يسمع إذا رفعنا ، ولا يسمع إذا خفضنا . وقال الاَخر : إذا كان يسمع منه شيئا فهو يسمعه كله ، قال : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرت ذلك له ، فنزلت هذه الاَية : وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أبْصَارَكُمْ . . . حتى بلغ وإنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنْ المُعْتَبِينَ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني منصور ، عن مجاهد ، عن أبي معمر ، عن عبد الله بنحوه .
{ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا } سؤال توبيخ أو تعجب ، ولعل المراد به نفس التعجب . { وقالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } أي ما نطقنا باختيارنا بل أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ، أو ليس نطقنا بعجب من قدرة الله الذي أنطق كل حي ، ولو أول الجواب والنطق بدلالة الحال بقي الشيء عاما في الموجودات الممكنة . { وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون } يحتمل أن يكون تمام كلام الجلود وأن يكون استئنافا .
ثم ذكر الله تعالى محاورتهم لجلودهم في قولهم : { لم شهدتم علينا } أي وعذابنا عذاب لكم .
واختلف الناس ما المراد بالجلود ؟ فقال جمهور الناس : هي الجلود المعروفة . وقال عبد الله بن أبي جعفر : كنى بالجلود عن الفروج ، وإياها أراد . وأخبر تعالى أن الجلود ترد جوابهم بأن الله الخالق المبدئ المعيد هو الذي أنطقهم .
وقوله : { أنطق كل شيء } يريد كل ناطق مما هي فيه عادة أو خرق عادة .
وإنما قالوا لجلودهم { لِمَ شَهِدتُمْ عَلَيْنَا } دون أن يقولوه لسمعهم وأبصارهم لأن الجلود مواجهة لهم يتوجهون إليها بالملامة . وإجراء ضمائر السمع والبصر والجلود بصيغتي ضمير جمع العقلاء لأن التحاور معها صيرها بحالة العقلاء يومئذٍ . ومن غريب التفسير قول من زعموا أن الجلود أريد بها الفروج ونسب هذا للسدي والفراء ، وهو تعنت في محمل الآية لا داعي إليه بحال ، وعلى هذا التفسير بنى أحمد الجرجاني في كتاب « كنايات الأدباء » فعدَّ الجلود من الكنايات عن الفُروج وعزاه لأهل التفسير فجازف في التعبير .
والاستفهام في قولهم : { لِمَ شَهِدتُمْ عَلَيْنَا } مستعمل في الملامة وهم يحسبون أن جلودهم لكونها جزءاً منهم لا يحق لها شهادتها عليهم لأنها تجر العذاب إليها . واستعمال الاستفهام عن العلة في معرض التوبيخ كثير كقوله تعالى : { فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } [ آل عمران : 66 ] .
وقول الجلود { أنطَقَنَا الله } اعتذار بأن الشهادة جرت منها بغير اختيار . وهذا النطق من خوارق العادات كما هو شأن العالم الأخروي . وقولهم : { الَّذِي أنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } تمجيد لله تعالى ولا علاقة له بالاعتذار ، والمعنى : الذي أنطق كل شيء له نطق من الحيوان واختلاف دلالة أصواتها على وجدانها ، فعموم { كُلَّ شَيْءٍ } مخصوص بالعرف .
{ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ ترجعون }
يجوز أن تكون هذه الجملة والتي عطفت عليها من تمام ما أنطق الله به جلودهم قُتفِّيَ على مقالتها تشهيراً بخطئهم في إنكارهم البعث والمصير إلى الله لزيادة التنديم والتحسير ، وهذا ظاهر كون الواو في أول الجملة واو العطف فيكون التعبير بالفعل المضارع في قوله : { وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ } لاستحضار حالتهم فإنهم ساعتئذٍ في قبضة تصرف الله مباشرة . وأما رجوعهم بمعنى البعث فإنه قد مضى بالنسبة لوقت إحضارهم عند جهنم ، أو يكون المراد بالرجوع الرجوع إلى ما ينتظرهم من العذاب .
ويجوز أن تكون هذه الجملة وما بعدها اعتراضاً بين جملة { وَيَوْمَ نُحْشَرُ أعْدَاءَ الله إلى النَّارِ } وجملة { فَإنْ يَصْبِرُوا فالنَّارُ مَثْوىً لَهُم } [ فصلت : 24 ] موجهاً من جانب الله تعالى إلى المشركين الأحياء لتذكيرهم بالبعث عقب ذكر حالهم في القيامة انتهازاً لفرصة الموعظة السابقة عند تأثرهم بسماعها .
ويكون فعل { تُرْجَعُونَ } مستعملاً في الاستقبال على أصله ، والكلام استدلال على إمكان البعث . قال تعالى : { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ] . وتقديم متعلق { تُرْجَعُونَ } عليه للاهتمام ورعاية الفاصلة .