قوله تعالى : { فإنهم عدو لي } يعني : أعدائي ، ووحده :على معنى أن كل معبود لكم عدو لي . فإن قيل : كيف وصف الأصنام بالعداوة وهي جمادات ؟ قيل : معناه فإنهم عدو لي لو عبدتهم يوم القيامة ، كما قال تعالى : { سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً } وقال الفراء : هو من المقلوب ، أراد : فإني عدو لهم ، لأن من عاديته فقد عاداك . وقيل : فإنهم عدو لي على معنى إني لا أتوهم ولا أطلب من جهتهم نفعاً ، كما لا يتولى العدو ، ولا يطلب من جهته النفع . قوله : { إلا رب العالمين } اختلفوا في هذا الاستثناء ، قيل : هو استثناء منقطع ، كأنه قال : فإنهم عدو لي لكن رب العالمين وليي . وقيل : إنهم كانوا يعبدون الأصنام مع الله ، فقال إبراهيم : كل من تعبدون أعدائي إلا رب العالمين . وقيل : إنهم غير معبود لي إلا رب العالمين ، فإني أعبده . وقال الحسين بن الفضل : معناه إلا من عبد رب العالمين .
وأمام هذا التقليد الأعمى ، نرى إبراهيم - عليه السلام - يعلن عداوته لهم ولمعبوداتهم الباطلة ، ويجاهرهم بأن عبادته إنما هى لله - تعالى - وحده فيقول :
{ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين } .
أى : قال لهم إبراهيم على سبيل الإنكار والتأنيب : أفرأيتم وشاهدتم هذه الأصنام التى عبدتموها أنتم وآباؤكم الأقدمون من دون الله - تعالى - إنها عدو لى لأن عبادتها باطلة لكن الله - تعالى - رب العالمين هو وليى وصاحب الفضل على فى الدنيا والآخرة ، فلذا أعبده وحده .
فقوله { إِلاَّ رَبَّ العالمين } . استثناء منقطع من ضمير { إِنَّهُمْ } .
قال صاحب الكشاف : وإنما قال : { عَدُوٌّ لي } تصويرا للمسألة فى نفسه ، على معنى : أنى فكرت فى أمرى فرأيت عبادتى لها عبادة للعدو فاجتنبتها وآثرت عبادة الذى الخير كله منه ، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسها أولا ، وبنى عليها تدبير أمره ، لينظروا فيقولوا : ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه ، ليكون أدعى لهم إلى القبول . ولو قال : فإنهم عدو لكم لم يكن بتلك المثابة ، ولأنه دخل فى باب من التعريض ، وقد يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح ، لأنه يتأمل فيه ، فربما قاده التأمل إلى التقبل ومنه ما يحكى عن الشافعى - رحمه الله - : أن رجلا واجهه بشىء ، فقال : لو كنتُ بحيث أنت ، لاحتجتُ إلى الأدب . . . وسمع رجل ناسا يتحدثون فى الحِجْر فقال : ما هو بيتى ولا بيتكم . .
فعند ذلك قال لهم إبراهيم أي {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} : إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير ، فَلْتَخْلُص إلي بالمساءة ، فإني عدو لها لا أباليها ولا أفكر فيها . وهذا كما قال تعالى مخبرًا عن نوح ، عليه السلام : { فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ } [ يونس : 71 ] وقال هود ، عليه السلام : { إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ . إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ هود : 54 - 56 ] وهكذا تبرأ إبراهيم من آلهتهم وقال : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا } [ الأنعام : 81 ] وقال تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [ الممتحنة : 4 ] وقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الزخرف : 26 - 28 ] يعني : لا إله إلا الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقْدَمُونَ * فَإِنّهُمْ عَدُوّ لِيَ إِلاّ رَبّ الْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قال إبراهيم لقومه : أفرأيتم أيها القوم ما كنتم تعبدون من هذه الأصنام أنتم وآباؤكم الأقدمون ، يعني بالأقدمين : الأقدمين من الذين كان إبراهيم يخاطبهم ، وهم الأوّلون قبلهم ممن كان على مثل ما كان عليه الذين كلمهم إبراهيم من عبادة الأصنام ، فإنهم عدوّ لي إلا ربّ العالمين . يقول قائل : وكيف يوصف الخشب والحديد والنحاس بعداوة ابن آدم ؟ فإن معنى ذلك : فإنهم عدوّ لي لو عبدتهم يوم القيامة ، كما قال جلّ ثناؤه واتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّا ، كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّا . وقوله : إلاّ رَبّ العالَمينَ نصبا على الاستثناء ، والعدوّ بمعنى الجمع ، ووحد لأنه أخرج مخرج المصدر ، مثل القعود والجلوس . ومعنى الكلام : أفرأيتم كلّ معبود لكم ولاَبائكم ، فإني منه بريء لا أعبده ، إلا ربّ العالمين .
{ فإنهم عدو لي } يريد أنهم أعداء لعابديهم من حيث إنهم يتضررون من جهتهم فوق ما يتضرر الرجل من جهة عدوه ، أو أن المغري بعبادتهم أعدى أعدائهم وهو الشيطان ، لكنه صور الأمر في نفسه تعريضا لهم فإنه أنفع في النصح من التصريح ، وإشعارا بأنها نصيحة بدأ بها نفسه ليكون أدعى إلى القبول ، وإفراد العدو لأنه في الأصل مصدر أو بمعنى النسب . { إلا رب العالمين } استثناء منقطع أو متصل على أن الضمير لكل معبود عبدوه وكان من آبائهم من عبد الله .
وعبر عن بغضته واطراحه لكل معبود سوى الله تعالى بالعداوة إذ هي تقتضي التغيير ومحو الرسم ، وقيل في الكلام قلب لأن الأصنام لا تعادي وإنما هو عاداها{[8950]} ، وقوله { إلا رب العالمين } قالت فرقة هو استثناء متصل لأن في بغضته الأقدمين من قد عبد الله ، وقالت فرقة هو استثناء منقطع لأنه إنما أرد عبادة الأوثان من كل قرن منهم ، ولفظة { عدو } تقع للجميع والمفرد والمؤنث والمذكر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.