البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَإِنَّهُمۡ عَدُوّٞ لِّيٓ إِلَّا رَبَّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (77)

وعدو : يكون للمفرد والجمع ، كما قال : { هم العدو فاحذرهم } قيل : شبه بالمصدر ، كالقبول والولوع .

قال الزمخشري : وإنما قال : { عدو لي } ، تصوراً للمسألة في نفسه على معنى : أي فكرت في أمري ، فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو ، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه ، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أولاً ، وبنى عليها تدبير أمره ، لينظروا ويقولوا : ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه ، وما أراد لنا إلا ما أراد لروحه ، ليكون أدنى لهم إلى القبول ، وأبعث على الاستماع منه .

ولو قال : فإنه عدو لكم ، لم يكن بتلك المثابة ، ولأنه دخل في باب من التعريض ، وقد يبلغ التعريض للمنصوح .

ما لا يبلغ التصريح ، لأنه ربما يتأمل فيه ، فربما قاده التأميل إلى التقبل .

ومنه ما يحكى عن الشافعي رضي الله عنه ، أن رجلاً واجهه بشيء فقال : لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب ؛ وسمع رجل ناساً يتحدثون عن الحجر فقال : ما هو بيتي ولا بيتكم . انتهى .

وهو كلام فيه تكثير على عادته ، وذهاب من ذهب إلى أن قوله : { فإنهم عدو لي } ، من المقلوب والأصل : فإني عدو لهم ، لأن الأصنام لا تعادي لكونها جماداً ، وإنما هو عاداها ليس بشيء ولا ضرورة تدعو إلى ذلك .

ألا ترى إلى قوله : { كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً } ، فهذا معنى العداوة ، ولأن المغري على عداوتها عدو الإنسان ، وهو الشيطان .

وقيل : لأنه تعالى يحيي ما عبدوه من الأصنام حتى يبترؤوا من عبدتهم ويوبخوهم .

وقيل : هو على حذف ، أي : فإن عبادهم عدو لي .

والظاهر إقرار الاستثناء في موضعه من غير تقديم ولا تأخير .

وقال الجرجاني : تقديره : أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين ، فإنهم عدو لي ، وإلا : بمعنى دون وسوى . انتهى .

فجعله مستثنى مما بعد كنتم تعبدون ، ولا حاجة إلى هذا التقدير لصحة أن يكون مستثنى من قوله : { فإنهم عدو لي } .

وجعله جماعة منهم الفراء ، واتبعه الزمخشري استثناء منقطعاً ، أي لكن رب العالمين ، لأنهم فهموا من قوله : ما كنتم تعبدون أنهم الأصنام .

وأجاز الزجاج أن يكون استثناء متصلاً على أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأصنام ، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله .