اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَإِنَّهُمۡ عَدُوّٞ لِّيٓ إِلَّا رَبَّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (77)

قوله : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي } اللغة الغالبة إفراد «عَدُوّ » وتذكيره ، قال تعالى : { هُمُ العَدُوُّ } [ المنافقون : 4 ] وإنما فعل به ذلك تشبيهاً بالمصادر نحو : «الوَلُوعُ ، والقَبُول »{[37316]} وقد يقال : أعداءٌ ، وعَدُوَّةٌ{[37317]} ، وقوله : «عَدُوٌّ لي » على أصله من غير تقدير مضاف ولا قلب ، لأن العدو والصديق يجيئان في معنى الوحدة والكثرة{[37318]} ، قال الشاعر :

3910 - وَقَوْمٌ عَلَى ذَوِي مِئْرَةٍ *** أَرَاهُمْ عَدُوّاً وَكَانُوا صَدِيقَا{[37319]}

وتقدم الكلام في نظيره عند قوله{[37320]} : «إنَّا رَسُولُ »{[37321]} .

وقيل : المعنى : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي } لو عبدتهم يوم القيامة ، كقوله :

{ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ] . ( وقيل : الأصنام لا تُعادى لأنها جماد ، والتقدير : فإن عبادهم عدو لي{[37322]} ){[37323]} . وقيل : بل{[37324]} في الكلام قلب تقديره : فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لهم{[37325]} وهذان مرجوحان لاستقامة الكلام بدونهما ، فإن قيل : لم قال : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي } ولم يقل فإنها عدو لكم ؟ فالجواب : أنه - عليه السلام{[37326]} - صور المسألة في نفسه ، بمعنى أني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو فاجتنبتها ، وأراهم أنها نصيحة نصح بها نفسه ، فإذا تفكروا وقالوا : ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون أدعى إلى القبول{[37327]} .

قوله : { إِلاَّ رَبَّ العالمين } فيه وجهان :

أحدهما : أنه منقطع ، أي : لكن رب العالمين ليس بعدوٍّ لي{[37328]} . وقال الجرجاني : فيه تقديم وتأخير ، أي : أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا ربّ العالمين{[37329]} فإنهم عدو لي ، و «إلاَّ » بمعنى «دُونَ ، وسِوَى »{[37330]} .

والثاني : أنه متصل ، وهو قول الزجاج{[37331]} ، لأنهم كانوا يعبدون الله والأصنام ، فقال إبراهيم : كل من تبعدون أعداء لي إلا رب العالمين .

وقال الحسن بن الفضل{[37332]} : معناه : إلا من عبد رب العالمين . وقيل : معناه : فإنهم غير معبود لي إلا رب العالمين . ثم وصف معبوده ، وهو قوله : «الذَّي خَلَقَنِي » يجوز فيه أوجه : النصب على النعت ل «رَبّ العَالَمِينَ » ، أو البدل ، أو عطف البيان ، أو على إضمار «أعني »{[37333]} . والرفع على خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو الذي خلقني ، أو على الابتداء . و «فَهُوَ يَهْدِين »{[37334]} جملة اسمية في محل رفع خبراً له{[37335]} .

قال الحوفي : ودخلت الفاء لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط{[37336]} . وهذا مردود ، لأن الموصول معيَّنٌ ليس عاماً ، ولأن الصلة لا يمكن فيها التجدد ، فلم يشبه الشرط{[37337]} وتابع أبو البقاء{[37338]} الحوفيَّ ، ولكنه لم يتعرض للفاء ، فإن عنى ما عناه الحوفي فقد تقدم ما فيه ، وإن لم يفعله فيكون تابعاً للأخفش في تجويزه{[37339]} زيادة الفاء في الخبر مطلقاً نحو : «زيدٌ فاضربه »{[37340]} وقد تقدم تجويزه .


[37316]:انظر الكشاف 3/117.
[37317]:عدوا من الصفات التي يستوي فيها المذكر والمؤنث فعول بمعنى فاعل، فلا تلحقها التاء للفصل بين المذكر والمؤنث غالباً لعدم الحاجة إليه، كرجل صبور، بمعنى: صابر، وامرأة صبور، بمعنى: صابرة وشذّ امرأة عدوة، لخروجه عن القاعدة، ومع ذلك فإنه محمول على صديقة، كما في عكسه، وهو حمل صديق على عدوه في قوله لم أبخل وأنت صديق. والقياس صديقة، وهم يحملون الضد على ضده، كما يحملون النظير على نظيره. انظر شرح التصريح 2/286-287، الهمع 2/170.
[37318]:كالمصدر. انظر الكشاف 3/117.
[37319]:البيت من بحر المتقارب، لم أهتد إلى قائله، وهو في الكشاف 3/117، والفخر الرازي 24/134، شرح شواهد الكشاف (85) المئرة: العداوة. وروي (مرة) وهي القوة وشدة الجدال.
[37320]:في ب: قوله تعالى.
[37321]:من قوله تعالى: {إنا رسول رب العالمين} [الشعراء: 16].
[37322]:حكاه أبو حيان. البحر المحيط 7/24.
[37323]:ما بين القوسين سقط من الأصل.
[37324]:ما بين القوسين في ب: وإن قيل: فلم لم يقل إن من يعبد الأصنام عدو لي فيكون. وهو تحريف.
[37325]:وهو قول الفراء. انظر معاني القرآن 3/381.
[37326]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[37327]:انظر الفخر الرازي 24/143.
[37328]:قال الفراء: (أي كل آلهة لكم فلا أعبدها إلا رب العالمين فإني أعبده) معاني القرآن 2/281، وصرح به الزمخشري، فإنه قال: ("إلا رب العالمين" استثناء منقطع كأنه قال ولكن رب العالمين) الكشاف 3/117، وانظر التبيان 2/996.
[37329]:في ب: إلا رب العالمين وقال الحسن بن الفضل فإنهم عدو لي.
[37330]:انظر القرطبي 13/110، البحر المحيط 7/24، وقال أبو حيان معقباً على قول الجرجاني: (فجعله مستثنى مما بعد "كنتم تعبدون" ولا حاجة إلى هذا التقدير، لصحة أن يكون مستثنى من قوله: "فإنهم عدو لي").
[37331]:معاني القرآن وإعرابه 4/93.
[37332]:لعله الحسن بن أبي الفضل. وقد تقدم.
[37333]:انظر البحر المحيط 7/24.
[37334]:في النسختين: يهديني.
[37335]:انظر البيان 2/215، التبيان 2/997، البحر المحيط 7/24.
[37336]:انظر: البحر المحيط 7/24.
[37337]:هذا اعتراض أبي حيان على الحوفي. انظر البحر المحيط 7/24.
[37338]:قال أبو البقاء: (..."الذي" مبتدأ، "فهو" مبتدأ ثان، و"يهدين" خبره، والجملة خبر "الذي") التبيان 2/997.
[37339]:في ب: تجويز.
[37340]:انظر البحر المحيط 7/24.