معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرٗا فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (35)

قوله تعالى : { إذ قالت امرأة عمران } وهي حنة بنت فاقوذا أم مريم ، وعمران هو عمران بن ماثان وليس بعمران أبي موسى عليه السلام وبينهما ألفا وثمانمائة سنة ، وقيل كان بين إبراهيم وموسى عليهما السلام ألف سنة ، وبين موسى وعيسى عليهما السلام ألفا سنة ، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم ، وقيل عمران بن أشهم .

قوله تعالى : { رب إني نذرت لك ما في بطني محررا } أي جعلت لك الذي في بطني محرراً نذراً مني لك .

قوله تعالى : { فتقبل مني إنك أنت السميع العليم } . والنذر ما يوجبه الإنسان على نفسه ، محرراً أي عتيقاً خالصاً لله مفرغاً لعباده الله ولخدمة الكنيسة ، لا أشغله بشيء من الدنيا . وكل ما أخلص فهو محرر يقال : حررت العبد إذا أعتقته وخلصته من الرق . قال الكلبي محمد بن إسحاق وغيرهما : كان المحرر إذا حرر جعل في الكنيسة يقوم عليها ويكنسها ويخدمها ولا يبرحها حتى يبلغ الحلم ، ثم يخير أن أحب أقام فيه ، وإن أحب ذهب حيث شاء ، وإن أراد أن يخرج بعد التخيير لم يكن له ذلك ، ولم يكن أحد من الأنبياء والعلماء إلا من نسله محرر لبيت المقدس ، ولم يكن محرراً إلا الغلمان ، ولا تصلح له الجارية لما يصيبها من الحيض والأذى ، فحررت أم مريم ما في بطنها .

وكانت القصة في ذلك أن زكريا وعمران تزوجا أختين وكانت إيشاع بنت قافوذا أم يحيى عند زكريا ، وكانت حنة بنت قافوذا أم مريم عند عمران ، وكان قد أمسك عن حنة الولد حتى أسنت وكانوا أهل بيت من الله بمكان ، فبينما هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخاً فتحركت بذلك نفسها للولد فدعت الله أن يهب لها ولداً وقالت : اللهم لك علي إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه ، فحملت بمريم ، فحررت ما في بطنها ولم تعلم ما هو ؟ فقال لها زوجها : ويحك ما صنعت ؟ أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى لا تصلح لذلك ؟ فوقعاً جميعاً في هم من ذلك فهلك عمران وحنة حامل بمريم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرٗا فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (35)

ثم حكى سبحانه ما قالته امرأة عمران عندما أحست بعلامات الحمل فقال تعالى : { إِذْ قَالَتِ امرأت عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي } والظرف " إذا " في محل النصب على المفعولية بفعل محذوف والتقدير : أذر لهم وقت قولها رب إنى نذرت . . . ألخ . وقيل هو متعلق بقوله { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أى أنه - سبحانه - يعلم علم ما يسمع في الوقت الذي قالت فيه امرأة عمران ذلك القول .

وامرأة عمران هذه هى " حنة " بنت فاقوذا بن قنبل وهى أم مريم وجدة عيسى عليه السلام وعمران هذا هو زوجها ، وهو أبو مريم .

وقوله { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } من النذر وهو التزام التقرب إلى الله - تعالى - بأمر من جنس العبادات التي شرعها - سبحانه - لعباده ليتقربوا بها إليه .

وقوله { نَذَرْتُ } أى عتيقا مخلصا للعبادة متفرغا من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدس . يقال : حررت العبد إذا خلصته من الرق وحررت الكتابة إذا أصلحته ولم تبق فيه شيئاً من وجوه الخطأ ، ورجل حر إذا كان خالصا لنفسه ليس لأحد عليه سلطان .

والمعنى : اذكر أيها العاقل لتعتبر وتتعظ وقت أن لجأت امرأة عمران إلى ربها تدعوه بضراعة وخشوع فتقول : يا رب إني نذرت لخدمة بيتك هذا الجنين الذى في بطني مخلصا لعبادتك متفرغا لطاعتك فتقبل منى هذا النذر الخالص ، وتلك النية الصادقة ، { إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } لقولي ولأقوال خلقك { العليم } بنيتى وبنوايا سائر عبادك .

فأنت ترى في هذا الدعاء الخاشع الذى حكاه القرآن عن امرأة عمران أسمى ألوان الأدب والإخلاص ، فقد توجهت إلى ربها بأعز ما تملك وهو الجنين الذى في بطنها ، ملتمسة منه - سبحانه - أن يقبل نذرها الذى وهبته لخدمة بيته ، واللام في قوله " لك " للتعليل أى نذرت لخدمة بيتك .

وقوله { مُحَرَّراً } حال من " ما " والعامل فيه " نذرت " .

قال بعضهم : " وكان هذا النذر يلزم في شريعتهم فكان المحرر عندهم إذا حرر جعل في الكنيسة يخدمها ولا يبرح مقيما فيها حتى يبلغ الحلم ، ثم يتخير فإن أحب ذهب حيث شاء ، وإن اختار الإقامة لا يجوز له بعد ذلك الخروج . ولم يكن أحد من أنبياء بنى إسرائيل وعلمائهم إلا ومن أولاده من حرر لخدمة بيت المقدس ولم يكن يحرر إلا العلمان ، ولا تصلح الجارية لخدمة بيت المقدس لما يصيبها من الحيض والأذى " . وجملة { إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } تعليلية لاستدعاء القبول ، من حيث أن علمه - سبحانه - بصحة نيتها وإخلاصها مستدع لقبول نذرها تفضلا منه وكرما .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرٗا فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (35)

33

ومن هذا الإعلان التمهيدي ينتقل السياق مباشرة إلى آل عمران ومولد مريم :

( إذ قالت امرأة عمران : رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم . فلما وضعتها قالت : رب : إني وضعتها أنثى - والله أعلم بما وضعت - وليس الذكر كالأنثى ، وإني سميتها مريم ؛ وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم . فتقبلها ربها بقبول حسن ، وأنبتها نباتا حسنا ، وكفلها زكريا . كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا . قال : يا مريم أنى لك هذا ؟ قالت : هو من عند الله ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) . .

وقصة النذر تكشف لنا عن قلب " امرأة عمران " - أم مريم - وما يعمره من إيمان ، ومن توجه إلى ربها بأعز ما تملك . وهو الجنين الذي تحمله في بطنها . خالصا لربها ، محررا من كل قيد ومن كل شرك ومن كل حق لأحد غير الله سبحانه . والتعبير عن الخلوص المطلق بأنه تحرر تعبير موح . فما يتحرر حقا إلا من يخلص لله كله ، ويفر إلى الله بجملته وينجو من العبودية لكل أحد ولك شيء ولكل قيمة ، فلا تكون عبوديته إلا لله وحده . . فهذا هو التحرر إذن . . وما عداه عبودية وإن تراءت في صورة الحرية !

ومن هنا يبدو التوحيد هو الصورة المثلى للتحرر . فما يتحرر إنسان وهو يدين لأحد غير الله بشيء ما في ذات نفسه ، أو في مجريات حياته ، أو في الأوضاع والقيم والقوانين والشرائع التي تصرف هذه الحياة . . لا تحرر وفي قلب الإنسان تعلق أو تطلع أو عبودية لغير الله . وفي حياته شريعة أو قيم أو موازين مستمدة من غير الله . وحين جاء الإسلام بالتوحيد جاء بالصورة الوحيدة للتحرر في عالم الإنسان . .

وهذا الدعاء الخاشع من امرأة عمران ، بأن يتقبل ربها منها نذرها - وهو فلذة كبدها - ينم عن ذلك الإسلام الخالص لله ، والتوجه إليه كلية ، والتحرر من كل قيد ، والتجرد إلا من ابتغاء قبوله ورضاه :

( رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني . إنك أنت السميع العليم ) . .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرٗا فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (35)

واختلف الناس{[3104]} في العامل في قوله { إذ قالت } فقال أبو عبيدة معمر : { إذ } زائدة ، وهذا قول مردود ، وقال المبرد والأخفش : العامل فعل مضمر تقديره ، اذكر إذ وقال الزجاج : العامل معنى الاصطفاء ، التقدير : واصطفى آل عمران إذ :

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا القول يخرج عمران من الاصطفاء ، وقال الطبري ما معناه : إن العامل في { إذ } قوله { سميع } و { امرأة عمران } اسمها حنة بنت قاذوذ فيما ذكر الطبري عن ابن إسحاق ، وهي أم مريم بنت عمران ، ومعنى قوله : { نذرت لك ما في بطني محرراً } أي جعلت نذراً أن يكون هذا الولد الذي في بطني حبيساً على خدمة بيتك محرراً من كل خدمة وشغل من أشغال الدنيا ، أي عتيقاً من ذلك فهو من لفظ الحرية ، ونصبه على الحال ، قال مكي : فمن نصبه على النعت لمفعول محذوف يقدره ، غلاماً محرراً ، وفي هذا نظر{[3105]} ، والبيت الذي نذرته له هو بيت المقدس .

قال ابن إسحاق{[3106]} : كان سبب نذر حنة لأنها كانت قد أمسك عنها الولد حتى أسنت فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائراً يزق فرخاً له فتحركت نفسها للولد فدعت الله أن يهب لها ولداً فحملت بمريم وهلك عمران ، فلا علمت أن في بطنها جنيناً جعلته نذيرة لله ، أن يخدم الكنيسة لا ينتفع به في شيء من أمر الدنيا ، وقال مجاهد : { محرراً } معناه خادماً للكنيسة وقال مثله الشعبي وسعيد بن جبير ، وكان هذا المعنى من التحرير للكنائس عرفاً في الذكور خاصة ، وكان فرضاً على الأبناء التزام ذلك{[3107]} ، فقالت { ما في بطني } ولم تنص على ذكورته لمكان الإشكال ، ولكنها جزمت الدعوة رجاء منها أن يكون ذكراً ، وتقبل الشيء وقبوله أخذه حيث يتصور الأخذ والرضى به في كل حال ، فمعنى قولها { فتقبل مني } أي ارضَ عني في ذلك واجعله فعلاً مقبولاً مجازى به ، والسميع ، إشارة إلى دعائها العليم إشارة إلى نيتها .


[3104]:-قارن كلامه بما جاء في "زاد المسير" 1/ 376.
[3105]:- لأن "نذر"" قد أخذ مفعوله وهو "ما في بطني"، أما من قال إنه منصوب على الحال فيقول: إنه حال من "ما" والعامل "نذر"، أو من الضمير الذي في "استقر" العامل في الجار والمجرور، لأن العامل فيه هو "استقر".
[3106]:-أورده أيضا ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/376.
[3107]:- هذا هو قول الزجاج (المصدر السابق نفسه)؛ وفي بعض النسخ: على الأنبياء.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ عِمۡرَٰنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرۡتُ لَكَ مَا فِي بَطۡنِي مُحَرَّرٗا فَتَقَبَّلۡ مِنِّيٓۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (35)

تقدم القول في موقع إذ في أمثال هذا المقام عند تفسير قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إنيّ جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] . وموقعها هنا أظهر في أنها غير متعلقة بعامل ، فهي لمجرد الاهتمام بالخبر ولذا قال أبو عبيدة : إذ هنا زائدة ، ويجوز أن تتعلق باذكر محذوفاً ، ولا يجوز تعلقها باصطفى : لأنّ هذا خاص بفضل آل عمران ، ولا علاقة له بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم .

وامرأة عمران هي حَنَّة بنت فاقوذا . قيل : مات زوجها وتركها حبلى فنذرت حَبَلَها ذلك محرّراً أي مخلَّصاً لخدمة بيت المقدس ، وكانوا ينذرون ذلك إذا كان المولود ذكراً . وإطلاق المحرّر على هذا المعنى إطلاق تشريف لأنّه لما خلص لخدمة بيت المقدس فكأنّه حُرر من أسر الدنيا وقيودها إلى حرية عبادة الله تعالى . قيل : إنّها كانت تظنّه ذكراً فصدر منها النذر مطلقاً عن وصف الذكورة وإنّما كانوا يقولون : إذا جاء ذكراً فهو محرّر .