قوله تعالى : { وإن من قرية } وما من قرية ، { إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة } أي : مخربوها ومهلكوا أهلها ، { أو معذبوها عذاباً شديداً } ، بأنواع العذاب إذا كفروا وعصوا . وقال مقاتل وغيره : مهلكوها في حق المؤمنين بالإماتة ، ومعذبوها في حق الكفار بأنواع العذاب . قال عبد الله بن مسعود : إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله في هلاكها . { كان ذلك في الكتاب } في اللوح المحفوظ { مسطوراً } ، مكتوباً . قال عبادة بن الصامت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول ما خلق الله القلم فقال اكتب ، فقال ما أكتب ؟ قال القدر ، وما كان وما هو كائن إلى الأبد " .
والمقصود بالقرية فى قوله - تعالى - : { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً } : قرى الكفار والظالمين ، كما ذهب إلى ذلك بعض المفسرين ، فيكون المعنى :
وما من قرية من قرى الظالمين ، إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة بالموت أو الخراب ، أو معذبوها عذابًا شديدًا ، يستأصل شأفتها ، ويقطع دابرها ، كما فعلنا مع قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم .
ومن المفسرين الذين ساروا على ذلك ، الإِمام ابن كثير ، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : هذا إخبار من الله - عز وجل - ، بأنه قد حتم وقضى ، بما كتب عنده فى اللوح المحفوظ ، أنه ما من قرية إلا سيهلكها ؛ بأن يبيد أهلها جميعهم ، أو يعذبهم عذابًا شديدًا ، إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء ، وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم ، كما قال - تعالى - عن الأمم الماضية : { وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } ويرى آخرون ، أن المقصود بالقرية هنا : القرى كلها سواء أكانت للمؤمنين أم للكافرين .
ومن المفسرين الذين ذهبوا إلى ذلك الآلوسى - رحمه الله - فقد قال : قوله - تعالى - : " { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ } الظاهر العموم ، لأن { إن } نافية ، و { من } زائدة لاستغراق الجنس . أى : وما من قرية من القرى . { إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة } بإماتة أهلها حتف أنوفهم { أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً } بالقتل وأنواع البلاء . . وروى عن مقاتل أنه قال : الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة . . . " .
ويبدو لنا أن الرأى الأول أقرب إلى الصواب ، لأن هناك آيات كثيرة تؤيده ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } وقوله - سبحانه - : { ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } وقوله - عز وجل - : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } ولأن الله - تعالى - قيد الإِهلاك بكونه قبل يوم القيامة ، وكونه كذلك يقتضى أنه للقرى الظالمة . إذ الإِهلاك يوم القيامة يشمل جميع القرى ، سواء أكان أهلها مؤمنين أم كافرين ، بسبب انقضاء عمر الدنيا .
وقوله - سبحانه - : { كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً } تأكيد لقضاء الله النافذ ، وحكمه الثابت .
أى : { كان ذلك } الإِهلاك والتعذيب ، فى الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ { مسطورًا } أى : مكتوبًا وثابتًا .
قال القرطبى : " { مسطورًا } أى : مكتوبًا . والسطر : الخط والكتابة ، وهو فى الأصل مصدر . والسطر - بالتحريك - مثله ، وجمعه أسطار ، مثل سبب وأسباب ، وجمع السطر - بسكون الطاء - أسطر وسطور مثل أفلس وفلوس . والكتاب هنا يراد به اللوح المحفوظ " .
( وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا . كان ذلك في الكتاب مسطورا ) . .
فقد قدر الله أن يجيء يوم القيامة ووجه هذه الأرض خال من الحياة ، فالهلاك ينتظر كل حي قبل ذلك اليوم الموعود . كذلك قدر العذاب لبعض هذه القرى بما ترتكب من ذنوب . ذلك ما ركز في علم الله . والله يعلم ما سيكون علمه بما هو كائن . فالذي كان والذي سيكون كله بالقياس إلى علم الله سواء .
وقوله تعالى : { وإن من قرية } الآية : أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه ليس مدينة من المدن إلا هي هالكة قبل يوم القيامة بالموت والفناء ، هذا مع السلامة وأخذها جزءاً أو هي معذبة مأخوذة مرة واحدة فهذا عموم في كل مدينة و { من } لبيان الجنس{[7609]} ، وقيل المراد الخصوص { وإن من قرية } ظالمة{[7610]} ، وحكى النقاش أنه وجد في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسير هذه الآية استقراء البلاد المعروفة اليوم ، وذكر الهلاك كل قطر منها صفة ، ثم ذكر نحو ذلك عن وهب بن منبه ، فذكر فيه أن هلاك الأندلس وخرابها يكون بسنابك الخيل واختلاف الجيوش فيها ، وتركت سائرها لعدم الصحة في ذلك ، والمعلوم أن كل قرية تهلك ، إما من جهة القحوط والخسف غرقاً ، وإما من الفتن ، أو منهما ، وصور ذلك كثيرة لا يعلمها إلا الله عزّ وجل ، فأما ما هلك بالفتنة ، فعن ظلم ولا بد ، إما في كفر أو معاص ، أو تقصير في دفاع ، وحزامة ، وأما القحط فيصيب الله به من يشاء ، وكذلك الخسف .
وقوله { مهلكوها } الضمير لها ، وفي ضمن ذلك الأهل ، وقوله { معذبوها } هو على حذف مضاف ، فإنه لا يعذب إلا الأهل ، وقوله { في الكتاب } يريد في سابق القضاء ، وما خطه القلم في اللوح المحفوظ ، و «المسطور » المكتوب إسطاراً .
لما عرضَ بالتهديد للمشركين في قوله : { إن عذاب ربك كان محذورا } [ الإسراء : 57 ] ، وتحداهم بقوله : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم } [ الإسراء : 56 ] جاء بصريح التهديد على مسمع منهم بأن كل قرية مثل قريتهم في الشرك لا يعدوها عذاب الاستيصال وهو يأتي على القرية وأهلها ، أو عذاب الانتقام بالسيف والذل والأسر والخوف والجوع وهو يأتي على أهل القرية مثل صرعى بدر ، كل ذلك في الدنيا . فالمراد : القرى الكافرُ أهلُها لقوله تعالى : { وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } في سورة [ هود : 117 ] ، وقوله : { وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } في سورة [ القصص : 59 ] .
وحذف الصفة في مثل هذا معروف كقوله تعالى : { يأخذ كل سفينة غصباً } [ الكهف : 79 ] أي كل سفينة صالحة ، بقرينة قوله : { فأردت أن أعيبها } [ الكهف : 79 ] .
وليس المقصود شمول ذلك القرى المؤمنة ، على معنى أن لا بد للقرى من زوال وفناء في سنة الله في هذا العالم ، لأن ذلك معارض لآيات أخرى ، ولأنه مناف لغرض تحذير المشركين من الاستمرار على الشرك .
فلو سلمنا أن هذا الحكم لا تنفلت منه قرية من القرى بحكم سنّة الله في مصير كل حادث إلى الفناء لما سلمنا أن في ذكر ذلك هنا فائدة .
والتقييد بكونه قبل { يوم القيامة } زيادة في الإنذار والوعيد ، كقوله : { ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } [ طه : 127 ] .
و ( من ] مزيدة بعد ( إنْ ) النافية لتأكيد استغراق مدخولها باعتبار الصفة المقدرة ، أي جميع القرى الكافرة كيلا يحسب أهلُ مكة عدم شمولهم .
والكتاب : مستعار لعلم الله وسابق تقديره ، فتعريفه للعهد ؛ أو أريد به الكتب المنزلة على الأنبياء ، فتعريفه للجنس فيشمل القرآن وغيره .
والمسطور : المكتوب ، يقال : سطر الكتاب إذا كتبه سطوراً ، قال تعالى : { والقلم وما يسطرون } [ القلم : 1 ] .