إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَإِن مِّن قَرۡيَةٍ إِلَّا نَحۡنُ مُهۡلِكُوهَا قَبۡلَ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَوۡ مُعَذِّبُوهَا عَذَابٗا شَدِيدٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا} (58)

{ وَإِن مّن قَرْيَةٍ } بيانٌ لتحتم حلول عذابِه تعالى بمن لا يحذره إثرَ بيانِ أنه حقيقٌ بالحذر وأن أساطينَ الخلق من الملائكة والنبيين عليهم الصلاة والسلام على حذر من ذلك ، وكلمةُ إنْ نافيةٌ ومِنْ استغراقيةٌ ، والمرادُ بالقرية القريةُ الكافرةُ أي ما من قرية من قرى الكفار { إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا } أي مُخْرِبوها البتةَ بالخسف بها أو بإهلاك أهلِها بالمرة لما ارتكبوا من عظائمِ المُوبقات المستوجبةِ لذلك ، وفي صيغة الفاعلِ وإن كانت بمعنى المستقبَل ما ليس فيه من الدِلالة على التحقق والتقرّرِ وإنما قيل : { قَبْلَ يَوْمِ القيامة } لأن الإهلاكَ يومئذ غيرُ مختصَ بالقرى الكافرة ولا هو بطريق العقوبةِ وإنما هو لانقضاء عمرِ الدنيا { أَوْ مُعَذّبُوهَا } أي معذبو أهلِها على الإسنادِ المجازيِّ { عَذَاباً شَدِيداً } لا بالقتل والسبْي ونحوِهما من البلايا الدنيويةِ فقط ، بل بما لا يُكتَنه كُنهُه من فنون العقوبات الأخرويةِ أيضاً حسبما يُفصح عنه إطلاقُ التعذيبِ عما قُيد به الإهلاكُ من قَبْلية يومِ القيامة ، كيف لا وكثيرٌ من القرى العاتية العاصيةِ قد أُخّرت عقوباتُها إلى يوم القيامة { كَانَ ذَلِكَ } الذي ذكر من الإهلاك والتعذيب { في الكتاب } أي اللوح المحفوظ { مَسْطُورًا } مكتوباً لم يغادَرْ منه شيءٌ إلا بُيِّن فيه بكيفياته وأسبابِه الموجبةِ له ووقتِه المضروبِ له . هذا وقد قيل : الهلاكُ للقُرى الصالحة والعذابُ للطالحة ، وعن مقاتل : «وجدتُ في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها أما مكةُ فُيْخرِبها الحبشةُ وتهلِك المدينةُ بالجوع والبصرةُ بالغرق والكوفةُ بالتُّرك والجبالُ بالصواعق والرواجف ، وأما خراسانُ فهلاكُها ضُروبٌ ثم ذكرها بلداً بلداً ، وقال الحافظ أبو عمْرو الداني في كتاب الفتن : أنه رُوي عن وهْب بن منبّه أن الجزيرةَ آمنةٌ من الخراب حتى تخرَبَ أرمينيةُ ، وأرمينيةُ آمنةٌ حتى تخرَب مصرُ ، ومصرُ آمنةٌ حتى تخرَبَ الكوفةُ ولا تكون الملحمةُ الكبرى حتى تخرَب الكوفةُ ، فإذا كانت الملحمةُ الكبرى فُتحت قُسطنطينةُ على يَديْ رجلٍ من بني هاشم ، وخرابُ الأندلس من قِبَل الزَّنْج ، وخرابُ إفريقيةَ من قِبَل الأندلس ، وخرابُ مصرَ من انقطاع النيلِ واختلافِ الجيوش فيها ، وخرابُ العراقِ من الجوع ، وخرابُ الكوفة من قِبل عدوَ من ورائهم يحصُرهم حتى لا يستطيعون أن يشربوا من الفرات قطرةً ، وخرابُ البصرة من قِبل الغرق ، وخرابُ الأَيْلة من قبل عدوَ يحصُرهم برًّا وبحراً ، وخرابُ الرّيّ من الديلم ، وخرابُ خراسانَ من قبل التّبْت ، وخرابُ التبت من قبل الصّين ، وخرابُ الهندِ واليمن من قبل الجرَاد والسلطان ، وخرابُ مكةَ من الحبشة ، وخرابُ المدينة من الجوع » .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : « آخرُ قريةٍ من قرى الإسلام خراباً المدينةُ » وقد أخرجه العمري من هذا الوجه . وأنت خبيرٌ بأن تعميمَ القريةِ لا يساعده السباقُ ولا السياق .