قوله تعالى : { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً } . قال عطاء : لا يرجو على إعطائه ثوابا ، ولا يخاف على إمساكه عقابا ، إنما ينفق خوفا أو رياء . والمغرم التزام ما لا يلزم { ويتربص } ، وينتظر { بكم الدوائر } يعني : صروف الزمان ، التي تأتي مرة بالخير ومرة بالشر . وقال يمان بن رباب : يعني ينقلب الزمان عليكم فيموت الرسول ويظهر المشركون ، { عليهم دائرة السوء } { عليهم } يدور البلاء والحزن ، ولا يرون في محمد ودينه إلا ما يسوءهم . وقرأ ابن كثير و أبو عمرو : { دائرة السوء } هاهنا وفي سورة الفتح ، بضم السين ، معناه : الضر والبلاء والمكروه . وقرأ الآخرون بفتح السين على المصدر . وقيل : بالفتح الردة والفساد ، وبالضم الضر والمكروه . { والله سميع عليم } . نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم .
ثم بين - سبحانه - حال فريق آخر من منافقى الاعراب فقال : { وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً } .
أى : ومن الاعراب قوم آخرون يعتبرون ما ينفقونه في سبيل الله غرامة وخسارة عليهم لأنهم لا ينفقون ما ينفقونه طمعا في ثواب ، أو خوفا من عقاب وإنما ينفقونه تقية ورياء ومداراة للمسلمين ، لا مساعدة للغزاة والمجاهدين ولا حبا في انتصار المؤمنين .
قال الجمل : وقوله : { وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً } " من " مبتدأ وهى موصولة أو موصوفة ، و " مغرما " . مفعول ثان ، لأن " اتخذ " هنا بمعنى صير ، والمفعول الأول قوله : " ما ينفق " .
والمغرم : الخسران ، مشتق من الغربم وهو الهلاك لأنه سببه ، وقيل أصله الملازمة ، ومنه الغريم للزومه من يطالبه .
وقوله : { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر } معطوف على ما قبله ، والتربص : الانتظار والترقب والدوائر : جمع دائرة . وهو ما يحيط بالإِنسان من مصائب ونكبات ، كما تحيط الدائرة بالشئ الذي بداخلها .
أى : أنهم بجانب اعتبارهم ما ينفقونه غرامة وخسارة ، ينتظرون بكم - أيها المؤمنون - صروف الدهر ونوائبه التي تبدل حالكم من الخير إلى الشر ومن النصر إلى الهزيمة ، ومن الصحة إلى المرض والأسقام ، ومن الأمان والاطمئنان إلى القلب والاضطراب . .
وقوله : { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء } جملة معترضة ، جئ بها للدعاء عليهم .
أى : عليهم لا عليكم - أيها المؤمنون - تدور دائرة السوء ، التي يتبدل بها حالهم إلى الهلاك والفساد .
والسوء - بفتح السين - مصدر ساءه يسوءه سوءا ، إذا فعل به ما يكره ، والسوء - بالضم - اسم منه . وقيل المفتوح بمعنى الذم ، والمضموم بمعنى العذاب والضرر .
وإضافة الدائرة إلى السوء من إضافة الموصوف إلى صفته للمبالغة ، كما في قولهم : رجل صدق .
وفى هذا التعبير ما فيه من الذم لهؤلاء المنافقين ، لأنه - سبحانه - جعل السوء كأنه دائرة تطبق عليهم فلا تفلتهم ، وتدور بهم فلا تدع لهم مهربا أو منجاة من عذابها وضررها .
وقوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } تذييل قصد به تهديدهم وتحذيرهم بما ارتكسوا فيه من نفاق وكفر وشقاق .
والله تعالى - " سميع " لكل ما يتفوهون به من أقوال ، " عليم " بكل ما يظهرونه وما يبطنونه من أحوال ، وسيحاسبهم على ما صدر منهم حسابا عسيرا يوم القيامة : وينزل بهم العقاب الذي يناسب جرائمهم . .
وبعد الوصف الرئيسي العام للأعراب يجيئ التصنيف حسبما أحدث الإيمان في النفوس من تعديلات ؛ وما انشأه كذلك من فروق بين القلوب التي خالطتها بشاشته والقلوب التي بقيت على ما فيها من كفر ونفاق ؛ مما يمثل الواقع في المجتمع المسلم حينذاك :
( ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ، ويتربص بكم الدوائر . عليهم دائرة السوء ، واللّه سميع عليم ) . .
وربما عجل بذكر المنافقين من الأعراب قبل المؤمنين منهم ، إلحاقاً لهم بمنافقي المدينة الذين كان يتحدث عنهم في المقطع السالف كله ؛ وليتصل جو الحديث عن المنافقين من هؤلاء ومن هؤلاء .
( ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ) . .
فهو مضطر لأن ينفق من ماله في الزكاة ، وفي غزوات المسلمين ؛ تظاهراً بالإسلام ، ليستمتع بمزايا الحياة في المجتمع المسلم ، ومداراة للمسلمين وهم أصحاب السلطان اليوم في الجزيرة ! وهو يعد ما ينفقه غرامة وخسارة يؤديها كارهاً ، لا مساعدة للغزاة المجاهدين ، ولا حباً في انتصار الإسلام والمسلمين .
وينتظر متى تدور الدائرة على المسلمين ، ويتمنى ألا يعودوا من غزاة سالمين !
وهنا يعاجلهم السياق بدعاء من اللّه - سبحانه - عليهم ؛ ودعاء اللّه معناه وقوع مدلول الدعاء عليهم :
كأن للسوء دائرة تطبق عليهم فلا تفلتهم ؛ وتدور عليهم فلا تدعهم . وذلك من باب تجسيم المعنوي وتخييله ، الذي يعمق وقع المعنى ويحييه .
والسمع والعلم يتناسبان هنا مع جو التربص بالسوء من أعداء الجماعة المسلمة ، والنفاق الذي تحتويه جوانحهم ، وتخفيه ظواهرهم . . واللّه سميع لما يقولون عليم بما يظهرون وما يكتمون .
وأخبر تعالى أن منهم { مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ } أي : في سبيل الله { مَغْرَمًا } أي : غرامة وخسارة ، { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ } أي : ينتظر بكم{[13797]} الحوادث والآفات ، { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ } أي : هي منعكسة عليهم والسوء دائر عليهم ، { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : سميع لدعاء عباده ، عليم بمن يستحق النصر ممن يستحق الخذلان .
هذا فريق من الأعراب يُظهر الإيمان ويُنفق في سبيل الله . وإنما يفعلون ذلك تقية وخوفاً من الغزو أو حباً للمحمدة وسلوكاً في مسلك الجماعة ، وهم يبطنون الكفر وينتظرون الفرصة التي تمكِّنهم من الانقلاب على أعقابهم . وهؤلاء وإن كانوا من جملة منافقي الأعراب فتخصيصهم بالتقسيم هنا منظور فيه إلى ما اختصوا به من أحوال النفاق ، لأن التقاسيم في المقامات الخَطابية والمجادلات تعتمد اختلافاً مَّا في أحوال المقسّم ، ولا يُعبأ فيها بدخول القسم في قسِيمه .
فقوله : { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً } هو في التقسيم كقوله : { ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر } [ التوبة : 99 ] . ومعنى { يتخذ } يَعُد ويجعل ، لأن اتخذ من أخوات جعل . والجعل يطلق بمعنى التغيير من حالة إلى حالة نحو جعلت الشقة برداً . ويطلق بمعنى العد والحسبان نحو { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } [ النحل : 91 ] فكذلك { يَتخذ } هنا .
والمَغرم : ما يدفع من المال قهراً وظُلماً ، فهؤلاء الأعراب يؤتون الزكاة وينفقون في سبيل الله ويعُدون ذلك كالأتاوات المالية والرزايا يدفعونها تقية . ومن هؤلاء من امتنعوا من إعطاء الزكاة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قائلهم من طيء في زمن أبي بكر لما جاءهم الساعي لإحصاء زكاة الأنعام :
فَقُولاَ لهذا المرءِ ذُو جاءَ ساعياً *** هَلُمَّ فإن المَشْرفيَّ الفرائض
أي فرائض الزكاة هي السيف ، أي يعطون الساعي ضربَ السيف بدلاً عن الزكاة .
والتربص : الانتظار . والدوائر : جمع دائرة وهي تغير الحالة من استقامة إلى اختلال . وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } في سورة العقود ( 52 ) .
والباء للسببية كقوله تعالى : { نتربص به ريب المنون } [ الطور : 30 ] وجُعل المجرور بالباء ضمير المخاطبين على تقدير مضاف . والتقدير : ويتربص بسبب حالتكم الدوائر عليكم لظهور أن الدوائر لا تكون سبباً لانتظارِ الانقلاب بل حالهم هي سبب تربصهم أن تنقلب عليهم الحال لأن حالتهم الحاضرة شديدة عليهم .
فالمعنى أنهم ينتظرون ضعفكم وهزيمتكم أو ينتظرون وفاة نبيكم فيظهرون ما هو كامن فيهم من الكفر . وقد أنبأ الله بحالهم التي ظهرت عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وهم أهل الردة من العرب .
وجملة : { عليهم دائرة السوء } دعاء عليهم وتحقير ، ولذلك فُصلت . والدعاء من الله على خلقه : تكوين وتقدير مشوبٌ بإهانة لأنه لا يعجزه شيء فلا يحتاج إلى تمني ما يريده . وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : { فلعنة الله على الكافرين } في سورة البقرة ( 89 ) .
وقد كانت على الأعراب دائرة السوء إذ قاتلهم المسلمون في خلافة أبي بكر عام الردة وهزموهم فرجعوا خائبين . وإضافة { دائرة } إلى { السوء } من الإضافة إلى الوصف اللازم كقولهم : عِشاءُ الآخِرة . إذ الدائرة لا تكون إلا في السوء . قال أبو علي الفارسي : لو لم تضف الدائرة إلى السوء عُرف منها معنى السوء لأن دائرة الدهر لا تستعمل إلا في المكروه . ونظيره إضافة السوء إلى ذئب في قول الفرزدق :
فكنتَ كذئب السَّوء حين رأى دَماً *** بصاحبه يوماً أحال على الدم
إذ الذئب متمحض للسوء إذ لا خير فيه للناس . والسَّوء بفتح السين المصدر ، وبضمها الاسم . وقد قرأ الجمهور بفتح السين . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحدهما بضم السين . والمعنى واحد .
وجملة : { والله سميع عليم } تذييل ، أي سميع ما يتناجون به وما يدبرونه من الترصد ، عليم بما يبطنونه ويقصدون إخفاءه .