قوله عز وجل{ وكأين من قرية عتت } عصت وطغت ، { عن أمر ربها ورسله } أي : وأمر رسله ، { فحاسبناها حساباً شديدا } بالمناقشة والاستقصاء ، قال مقاتل : حاسبها بعملها في الدنيا فجازها بالعذاب ، وهو قوله : { وعذبناها عذاباً نكراً } منكراً فظيعاً ، وهو عذاب النار . لفظهما ماض ومعناهما الاستقبال . وقيل : في الآية تقديم وتأخير ، مجازها : فعذبناها في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر البلايا ، وحاسبناها في الآخرة حساباً شديداً .
بعد كل ذلك ساق - سبحانه - جانبا من سوء عاقبة الأقوام الذين فسقوا عن أمر ربهم ، وخالفوا رسله : وكرر الأمر بتقواه ، وذكر الناس بجانب من نعمه ، حيث أرسل إليهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليتلوا عليهم آياته . . . كما ذكرهم بعظيم قدرته - تعالى - وشمول علمه ، فقال - سبحانه - : { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ . . . } .
كلمة { وَكَأِيِّن } اسم لعدد كثير منهم ، يفسره ما بعده ، فهى بمعنى " كم " الخبرية التى تفيد التكثير ، وهى مبتدأ ، وقوله { مِّن قَرْيَةٍ } تمييز لها .
وجملة { عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا } خبر للمبتدأ . والعتو : الخروج عن الطاعة ، يقال : عتا فلان يعتو عتوا وعتيا . إذا تجبر وطغى وتجاوز الحدود فى الاستكبار والعناد .
والمراد بالقرية : أهلها ، على سبيل المجاز المرسل ، من إطلاق المحل وإرادة الحال ، فهو كقوله - تعالى - : { وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا } والقرينة على أن المراد بالقرية أهلها ، قوله - تعالى - بعد ذلك : { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً . . } .
والمراد بالمحاسبة فى قوله { فَحَاسَبْنَاهَا . . } المجازاة والمعاقبة الدنيوية على أعمالهم ، بدليل قوله - تعالى - عن العذاب الأخروى بعد ذلك { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً . . } .
ويجوز أن يراد بالمحاسبة هنا : العذاب الأخروى ، وجىء بلفظ الماضى على سبيل التأكيد وتحقق الوقوع ، كما فى قوله - تعالى - : { ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار . . } ويكون قوله - سبحانه - : { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً . . } تكريرا للوعيد .
والمعنى : وكثير من أهل القرى الماضية ، خرجوا عن طاعة ربهم ، وعصوا رسله ، فكانت نتيجة ذلك أن سجلنا عليهم أفعالهم تسجيلا دقيقا ، وجازيناهم عليها جزاء عادلا ، بأن عذبناهم عذابا فظيعا . وعاقبناهم عقابا نكرا . .
والشىء النكر بضمتين وبضم فسكون - ما ينكره العقل من شدة كيفية حدوثه إنكارا عظيما .
فإذا انتهى السياق من هذا كله ساق العبرة الأخيرة في مصير الذين عتوا عن أمر ربهم ورسله ، فلم يسمعوا ولم يستجيبوا . وعلق هذه العبرة على الرؤوس ، تذكرهم بالمصير البائس الذي ينتظر من لا يتقي ولا يطيع . كما تذكرهم بنعمة الله على المؤمنين المخاطبين بالسورة والتشريع :
وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله ، فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا . فذاقت وبال أمرها ، وكان عاقبة أمرها خسرا . أعد الله لهم عذابا شديدا . فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا ، قد أنزل الله إليكم ذكرا : رسولا يتلوا عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور . ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا . قد أحسن الله له رزقا . .
وهو إنذار طويل وتحذير مفصل المشاهد . كما أنه تذكير عميق بنعمة الله بالإيمان والنور ، ووعده بالأجر في الآخرة وهو أحسن الرزق وأكرمه .
فأخذ الله لمن يعتو عن أمره ولا يسلم لرسله هو سنة متكررة : ( وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا ) . وتفصيل أخذها وذكر الحساب العسير والعذاب النكير ،
يقول تعالى متوعدًا لمن خالف أمره ، وكذب رسله ، وسلك غير ما شرعه ، ومخبرًا عما حل بالأمم السالفة بسبب ذلك ، فقال : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ } أي : تمردت وطغت واستكبرت عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله ، { فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا } أي : منكرا فظيعًا .
{ كأين } : هي كاف الجر دخلت على أي ، وهذه قراءة الجمهور ، وقرا ابن كثير وعبيد عن أبي عمرو : «وكائن » ممدود مهموز ، كما قال الشاعر :
وكائن بالأباطح من صديق***{[11172]}
وقرأ بعض القراء : { وكأين } بتسهيل الهمزة ، وفي هذين الوجهين قلب لأن الياء قبل الألفات ، وقوله تعالى : { فحاسبناها } قال بعض المتأولين : الآية في الآخرة ، أي ثم هو الحساب والتعذيب والذوق وخسار العاقبة . وقال آخرون : ذلك في الدنيا ، ومعنى : { فحاسبناها حساباً شديداً } أي لم نغتفر لها زلة بل أخذت بالدقائق من الذنوب ، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكران : «نكُراً » بضم الكاف ، وقرأ الباقون : «نكْراً » بسكون الكاف وهي قراءة عيسى .
لما شُرعت للمسلمين أحكام كثيرة من الطلاف ولَواحِقه ، وكانت كلها تكاليف قد تحجُم بعضُ الأنفس عن إيفاء حق الامتثال لها تكاسلاً أو تقصيراً رغّب في الامتثال لها بقوله : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } [ الطلاق : 2 ] وقوله : { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً } [ الطلاق : 4 ] ، وقوله : { ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً } [ الطلاق : 5 ] وقوله : { سيجعل الله بعد عسر يسراً } [ الطلاق : 7 ] .
وحذر الله الناس في خلال ذلك من مخالفتها بقوله : { وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } [ الطلاق : 1 ] ، وقوله : { ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر } [ الطلاق : 2 ] أعقبها بتحذير عظيم من الوقوع في مخالفة أحكام الله ورسله لقلة العناية بمراقبتهم ، لأن الصغير يُثير الجليل ، فذكَّر المسلمين ( وليسوا ممن يعتوا على أمر ربهم ) بما حلّ بأقوام من عقاب عظيم على قلة اكتراثهم بأمر الله ورسله لئلا يسلكوا سبيل التهاون بإقامة الشريعة ، فيلقي بهم ذلك في مَهواة الضلال .
وهذا الكلام مقدمة لما يأتي من قوله : { فاتقوا الله يا أولي الألباب } الآيات . فالجملة معطوفة على مجموع الجمل السابقة عطف غرض على غرض .
و { كأيّن } اسم لعدد كثير مُبهم يفسره ما يميزه بعده من اسم مجرور بمن و { كأيّن } بمعنى ( كَم ) الخبرية . وقد تقدم عند قوله تعالى : { وكأيّن من نبيء قتل معه ربيون كثير } في [ آل عمران : 146 ] .
والمقصود من إفادة التكثير هنا تحقيق أن العذاب الذي نال أهل تلك القرى شيء ملازم لِجزائهم على عتوّهم عن أمر ربهم ورسله فلا يتوهم متوهم أن ذلك مصادفة في بعض القرى وأنها غير مطردة في جميعهم .
وكأيّن } في موضع رفع على الابتداء ، وهو مبني .
وجملة { عتت عن أمر ربها } في موضع الخبر ل { كأيّن } .
والمعنى : الإِخبار بكثرة ذلك باعتبار ما فُرع عليه من قوله : { فحاسبناها } فالمفرع هو المقصود من الخبر .
والمراد بالقرية : أهلها على حد قوله : { واسأل القرية التي كنا فيها } [ يوسف : 82 ] بقرينة قوله عَقب ذلك { أعد الله لهم عذاباً شديداً } إذ جيء بضمير جمع العقلاء .
وإنما أوثر لفظ القرية هنا دون الأُمة ونحوها لأن في اجتلاب هذا اللفظ تعريضاً بالمشركين من أهل مَكة ومشايعةً لهم بالنذارة ولذلك كثر في القرآن ذكر أهل القرى في التذكير بعذاب الله في نحو { وكم من قرية أهلكناها } [ الأعراف : 4 ] .
وفيه تذكير للمسلمين بوعد الله بنصرهم ومحق عدوّهم .
والعتوّ ويقال العُتِيّ : تجاوز الحدّ في الاستكبار والعناد .
وضمن معنى الإِعراض فعدي بحرف { عن } .
والمحاسبة مستعملة في الجزاء على الفعل بما يناسب شدته من شديد العقاب ، تشبيهاً لتقدير الجزاء بإجراء الحساب بين المتعاملين ، وهو الحساب في الدنيا ، ولذلك جاء { فحاسبناها } و { عذبناها } بصيغة الماضي .
والمعنى : فجازيناها على عتوّها جزاءً يكافىء طغيانها .
والعذاب النُكُر : هو عذاب الاستئصال بالغرق ، والخسف ، والرجم ، ونحو ذلك .
وعطفُ العذاب على الحساب مؤذن بأنه غيره ، فالحساب فيما لقوه قبل الاستئصال من المخوفات وأشراط الإِنذار مثل القحط والوباء والعذاب هو ما توعدوا به .
ولك أن تجعل الحساب على حقيقته ويراد به حساب الآخرة . وشدته قوة المناقشة فيه والانتهارُ على كل سيئة يحاسبون عليها .
والعذاب : عذاب جهنم ، ويكون الفعل الماضي مستعملاً في معنى المستقبل تشبيهاً للمستقبل بالماضي في تحقق وقوعه مثل قوله : { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] ، وقوله : { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار } [ الأعراف : 44 ] .
والنُكُر بضمتين ، وبضم فَسكون : ما ينكره الرأي من فظاعة كيفيته إنكاراً شديداً .
وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوبُ { نكُراً } بضمتين . وقرأه الباقون بسكون الكاف . وتقدم في سورة الكهف .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وكأين من أهل قرية طغوا عن أمر ربهم وخالفوه، وعن أمر رسل ربهم، فتمادوا في طغيانهم وعتوّهم، ولجوا في كفرهم...
وقوله:"فَحاسَبْناها حِسابا شَدِيدا "يقول: فحاسبناها على نعمتنا عندها وشكرها حسابا شديدا، يقول: حسابا استقصينا فيه عليهم، لم نعف لهم فيه عن شيء، ولم نتجاوز فيه عنهم...
وقوله: "وَعَذّبْناها عَذَابا نُكْرا" يقول: وعذّبناها عذابا عظيما منكرا، وذلك عذاب جهنم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... والعتوّ: النهاية في الاستكبار، ألا ترى إلى قوله تعالى: {لقد استكبروا في أنفسهم وعَتَوِا عُتُوا كبيرا} [الفرقان: 21]. وقوله تعالى: {فحاسبناها حسابا شديدا} له أوجه من التأويل: أحدهما يقول: {فحاسبناها} أي بلغوا في الكفر والعتو والاستكبار مبلغا صاروا من أهل الحساب الشديد والعذاب المنكر. والثاني: يجعل ما ذكر الله تعالى من نزول النقمة بالأمم الماضية لعتوهم واستكبارهم حسابا شديدا لهذه الأمة ليتذكّروا، ويتّعظوا. والثالثة يكون معناه: {فحاسبناها} أي ستحاسب حسابا شديدا في الآخرة كما كان معنى قوله تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس} [المائدة: 116.] بمعنى: وإذ يقول الله، فكذلك الأول، والله اعلم...
ووجه نزول هذه الآيات أن يكون له معنيان:
أحدهما: تخويف أمة محمد صلى الله عليه وسلم والكفرة من أهل مكة بما نزل بالأمم الخالية حين تركوا اتباع رسلهم والإيمان بهم، واستكبروا في أنفسهم، وعتوا، لكي ينتهي أهل قريته عليه السلام، عما هم فيه من الكفر والعتو، ويحذروا الوقوع فيه في حادث الأوقات.
والثاني: يحتمل أن تكون تسكينا لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهوينا عليه في ما يلقى من أمر قومه وعصيانهم وعتوّهم، وليعلم ما لقيت الرسل المتقدمة من أممهم حتى بلغ كفرهم واستكبارهم المبلغ الذي وقع اليأس من إيمانهم حتى أنزل الله تعالى بهم ما أنزل من النقم والعقوبة. ويجوز أن تكون هذه الآيات محنة امتحن بها رسوله لتعلم شفقته على أمته في ترك الدعاء عليهم بالإهلاك...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(وكأين من قرية) معناه و (كم من قرية) على التكثير، لأنه يخبر ب (كم) عن الكثرة (عتت عن أمر ربها) والعتو: الخروج إلى فاحش الفساد... وقوله (وعذبناها عذابا نكرا) معناه عذبنا أهل تلك القرية العاتية عذابا نكرا، وهو الذي ينكره الطبع وتأباه النفوس لصعوبته وشدته...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
عذبناهم عذابا نكرا في الآخرة، وعبر بالماضي عن المستقبل دلالة على التحقق كما في قوله تعالى: {ونُفخ في الصور} [ق:20]...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{كأيّن} اسم لعدد كثير مُبهم... والمقصود من إفادة التكثير هنا تحقيق أن العذاب الذي نال أهل تلك القرى شيء ملازم لِجزائهم على عتوّهم عن أمر ربهم ورسله فلا يتوهم متوهم أن ذلك مصادفة في بعض القرى وأنها غير مطردة في جميعهم...
وإنما أوثر لفظ القرية هنا دون الأُمة ونحوها لأن في اجتلاب هذا اللفظ تعريضاً بالمشركين من أهل مَكة ومشايعةً لهم بالنذارة ولذلك كثر في القرآن ذكر أهل القرى في التذكير بعذاب الله في نحو {وكم من قرية أهلكناها} [الأعراف: 4]. وفيه تذكير للمسلمين بوعد الله بنصرهم ومحق عدوّهم. والعتوّ ويقال العُتِيّ: تجاوز الحدّ في الاستكبار والعناد. وضمن معنى الإِعراض فعدي بحرف {عن}. والمحاسبة مستعملة في الجزاء على الفعل بما يناسب شدته من شديد العقاب، تشبيهاً لتقدير الجزاء بإجراء الحساب بين المتعاملين، وهو الحساب في الدنيا، ولذلك جاء {فحاسبناها} و {عذبناها} بصيغة الماضي. والمعنى: فجازيناها على عتوّها جزاءً يكافئ طغيانها. والعذاب النُكُر: هو عذاب الاستئصال بالغرق، والخسف، والرجم، ونحو ذلك. وعطفُ العذاب على الحساب مؤذن بأنه غيره، فالحساب فيما لقوه قبل الاستئصال من المخوفات وأشراط الإِنذار مثل القحط والوباء والعذاب هو ما توعدوا به...