ثم بين - سبحانه - أن مصير العباد جميعا إليه وحده فقال .
{ وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } .
أى ولئن متم - أيها المؤمنون - وأنتم فى بيوتكم أو فى أى مكان ، أو قتلتم بأيديى أعدائكم وأنتم تجاهدون فى سبيل الله ، فعلى أى وجه من الوجوه كان انقضاء حياتكم فإنكم إلى الله وحده جميعا تعودون وتحشرون فيجازيكم على أعمالكم .
فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد اشتملت على أبلغ ألوان الترغيب فى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله ، لأنها قد بينت أن الحياة والموت بيد الله وحده وأنه سبحانه قد يكتب الحياة للمسافر والغازى مع اقتحامها لموارد الحتوف ، وقد يميت المقيم والقاعد فى بيته مع حيازته لأسباب السلامة .
وأن الذين يموتون على الإيمان الحق ، أو يقتلون وهم يجاهدون فى سبيل الله فإن لهم من مغفرة الله ورحمته ما هو خير مما يجمعه الكافرون من حطام الدنيا .
وأن جميع الخلق مؤمنمهم وكافرهم سيعودون إلى الله ليجازيهم على أعمالهم يوم الدين .
قال الفخر الرازى : واعلم أن فى قوله : { لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } دقائق :
أحداها : أنه لم يقل : تحشرون إلى الله ، بل قال : لإلى الله تحشرون ، وهذا يفيد الحصر ، وهذا يدل على أنه لا حاكم فى ذلك اليوم ولا نافع ولا ضار إلا هو .
وثانيهما : أنه ذكر من أسمائه هذا الاسم ، وهذا الاسم أعظم الأسماء وهو دال على كمال الرحمة . وكمال القهر ، فهو لدلالته على كمال الرحمة أعظم أنواع الوعد ، ولدلالته على كمال القهر أشد أنواع الوعيد .
وثالثها : أن قوله { تُحْشَرُونَ } فعل لم يسم فاعله ، مع أن فاعل ذلك الحشر هو الله وإنما ما يقع التصريح به لأنه - تعالى - هو العظيم الكبير الذى شهدت العقول بأنه هو الذى يبدىء ويعيد ، ومنه الإنشاء والإعادة فترك التصريح فى مثل هذا الموضع أدل على العظمة .
ورابعها : أن قوله { تُحْشَرُونَ } خطاب مع الكل فهو يدل على أن جميع العاملين ، يحشرون إلى الله فيجتمع المظلوم مع الظالم والمقتول مع القاتل ، والله - تعالى - هو الذى يتولى الحكم بينهم .
( وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإٍلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ )
وكلهم مرجوعون إلى الله ، محشورون إليه على كل حال . ماتوا على فراشهم أو ماتوا وهم يضربون في الأرض ، أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان . فما لهم مرجع سوى هذا المرجع ؛ وما لهم مصير سوى هذا المصير . . والتفاوت إذن إنما يكون في العمل والنية وفي الاتجاه والاهتمام . . أما النهاية فواحدة : موت أو قتل في الموعد المحتوم ، والأجل المقسوم . ورجعة إلى الله وحشر في يوم الجمع والحشر . . ومغفرة من الله ورحمة ، أو غضب من الله وعذاب . . فأحمق الحمقى من يختار لنفسه المصير البائس . وهو ميت على كل حال !
بذلك تستقر في القلوب حقيقة الموت والحياة ، وحقيقة قدر الله . وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاء جرى به القدر ؛ وإلى ما وراء القدر من حكمة ، وما وراء الابتلاء من جزاء . . وبذلك تنتهي هذه الجولة في صميم أحداث المعركة ، وفيما صاحبها من ملابسات . .
{ وَلَئِنْ مّتّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولئن متم أو قتلتم أيها المؤمنون ، فإن إلى الله مرجعكم ومحشركم ، فيجازيكم بأعمالكم ، فآثِروا ما يقرّبكم من الله ، ويوجب لكم رضاه ، ويقرّبكم من الجنة ، من الجهاد في سبيل الله ، والعمل بطاعته على الركون إلى الدنيا ، وما تجمعون فيها من حطامها الذي هو غير باق لكم ، بل هو زائل عنكم ، وعلى ترك طاعة الله والجهاد ، فإن ذلك يبعدكم عن ربكم ، ويوجب لكم سخطه ، ويقرّبكم من النار .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال ابن إسحاق .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَلَئِنْ مُتّمْ أوْ قُتِلْتُمْ } أيّ ذلك كان ، { لإلِى اللّهِ تُحْشَرُونَ } أي أن إلى الله المرجع ، فلا تغرّنكم الحياة الدنيا ، ولا تغترّوا بها ، وليكن الجهاد وما رغبكم الله فيه منه آثر عندكم منها .
وأدخلت اللام في قوله : { لإلِى اللّهِ تُحْشَرُونَ } لدخولها في قوله «ولئن » ، ولو كانت اللام مؤخرة ، إلى قوله : «تحشرون » ، لأحدثت النون الثقيلة فيه ، كما تقول في الكلام : لئن أحسنت إليّ لأحسننّ إليك ، بنون مثقلة ، فكان كذلك قوله : «ولئن متم أو قتلتم لتحشرنّ إلى الله » ، ولكن لما حيز بين اللام وبين تحشرون بالصفة أدخلت في الصفة ، وسلمت «تحشرون » ، فلم تدخلها النون الثقيلة ، كما تقول في الكلام : لئن أحسنت إليّ لإليك أحسن ، بغير نون مثقلة .
ثم قدم الموت في قوله تعالى : { ولئن متم أو قتلتم } لأنها آية وعظ بالآخرة والحشر ، وآية تزهيد في الدنيا والحياة ، والموت المذكور فيها هو موت على الإطلاق في السبيل وفي المنزل وكيف كان ، فقدم لعمومه وأنه الأغلب في الناس من القتل ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي «مِتم » بكسر الميم و «متنا » و «مت » بالكسر في جميع القرآن وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : بضم الميم في جميع القرآن ، وروى أبو بكر عن عاصم ضم الميم في جميع القرآن ، وروى عنه حفص ضم الميم في هذين الموضعين «أو مُتم ولئن مُتم » فقط ، وكسر الميم حيث ما وقعت في جميع القرآن ، قال أبو علي : ضم الميم هو الأشهر والأقيس ، مت تموت مثل : قلت تقول وطفت تطوف ، والكسر شاذ في القياس وإن كان قد استعمل كثيراً ، وليس كما شذ قياساً واستعمالاً كشذوذ اليجدع{[3651]} ونحوه ، ونظير مت تموت بكسر الميم فضل بكسر الضاد يفضل في الصحيح وأنشدوا{[3652]} :
ذكرت ابن عباس بباب ابن عامر . . . وما مر من عمري ذكرت وما فضل
وقوله تعالى : { لمغفرة } رفع بالابتداء { ورحمة } ، عطف على المغفرة و { خير } خبر الابتداء ، والمعنى : المغفرة والرحمة اللاحقة عن القتل أو الموت في سبيل الله خير ، فجاء لفظ المغفرة غير معرف إشارة بليغة إلى أن أيسر جزء منها خير من الدنيا ، وأنه كاف في فوز العبد المؤمن ، وتحتمل الآية أن يكون قوله { لمغفرة } إشارة إلى القتل أو الموت في سبيل الله ، سمى ذلك مغفرة ورحمة إذ هما مقترنان به ويجيء التقدير : لذلك مغفرة ورحمة وترتفع المغفرة على خبر الابتداء المقدر ، وقوله { خير } صفة لخبر الابتداء ، وقرأ جمهور الناس «تجمعون » بالتاء على المخاطبة وهي أشكل بالكلام ، وقرأ قوم منهم عاصم فيما روى عن حفص «يجمعون » بالياء ، والمعنى مما يجمعه المنافقون وغيرهم .
ثم ذكر تعالى الحشر إليه ، وأنه غاية لكل أحد قتل أو مات ، وفي الآية تحقير لأمر الدنيا وحض على طلب الشهادة ، أي إذا كان الحشر في كلا الأمرين فالمضي إليه في حال الشهادة أولى .
واللام في قوله : { ولئن قتلتم } موطّئة للقسم أي مؤذنة بأنّ قبلها قسماً مقدّراً ، ورد بعده شرط فلذلك لا تقع إلاّ مع الشرط . واللام في قوله : { لمغفرة } هي لام جواب القسم . والجوابُ هو قوله : { لمغفرة من الله ورحمة خير } لظهور أنّ التقدير : لمغفرة ورحمة لكم . وقرأه نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف : مِتّم بكسر الميم على لغة الحجاز لأنَّهم جعلوا مَاضيهُ مثل خَاف ، اعتبروه مكسور العين وجعلوا مضارعه من باب قَام فقالوا : يموت ، ولم يقولوا : يمات ، فهو من تداخل اللغتين . وأمَّا سُفلى مضر فقد جاءوا به في الحالين من باب : قام فقرأوه : مُتُّم . وبها قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عَمرو ، وعاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب . وقرأ الجمهور { ممَّا تجمعون } بتاء الخطاب وقرأ حفص عن عاصم بياء الغائب على أنّ الضّمير عائد إلى المشركين أي خير لكم من غنائم المشركين الّتي جمعوها وطمعتم أنتم في غنمها .
وقُدّم القتل في الأولى والموتُ في الثانية اعتباراً بعطف ما يظنّ أنّه أبْعد عن الحكم فإنّ كون القتل في سبيل الله سبباً للمغفرة أمر قريب ، ولكن كون الموت في غير السبيل مثل ذلك أمر خفي مستبعد ، وكذلك تقديم الموت في الثَّانية لأنّ القتل في سبيل الله قد يظنّ أنَّه بعيد عن أن يعقبه الحشر ، مع ما فيه من التفنّن ، ومن ردّ العجز على الصدر وجعل القتل مبدأ الكلام وعوده .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم حذرهم القيامة، فقال: {ولئن متم} في غير قتل {أو قتلتم} في سبيله {لإلى الله تحشرون} فيجزيكم بأعمالكم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك جلّ ثناؤه: ولئن متم أو قتلتم أيها المؤمنون، فإن إلى الله مرجعكم ومحشركم، فيجازيكم بأعمالكم، فآثِروا ما يقرّبكم من الله، ويوجب لكم رضاه، ويقرّبكم من الجنة، من الجهاد في سبيل الله، والعمل بطاعته على الركون إلى الدنيا، وما تجمعون فيها من حطامها الذي هو غير باق لكم، بل هو زائل عنكم، وعلى ترك طاعة الله والجهاد، فإن ذلك يبعدكم عن ربكم، ويوجب لكم سخطه، ويقرّبكم من النار...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا كان المصير إلى الله طاب المسيرُ إلى الله، وإنَّ سَفْرةً إليه بعدها نَحُطُّ رِحَالَنا لَمُقَاسَاتُها أحلى من العسل!.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لإلى الله الرحيم الواسع الرحمة، المثيب العظيم الثواب تحشرون ولوقوع اسم الله تعالى هذا الموقع مع تقديمه وإدخال اللام على الحرف المتصل به، شأن ليس بالخفي...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم قدم الموت في قوله تعالى: {ولئن متم أو قتلتم} لأنها آية وعظ بالآخرة والحشر، وآية تزهيد في الدنيا والحياة، والموت المذكور فيها هو موت على الإطلاق في السبيل وفي المنزل وكيف كان، فقدم لعمومه وأنه الأغلب في الناس من القتل... ثم ذكر تعالى الحشر إليه، وأنه غاية لكل أحد قتل أو مات، وفي الآية تحقير لأمر الدنيا وحض على طلب الشهادة، أي إذا كان الحشر في كلا الأمرين فالمضي إليه في حال الشهادة أولى.
اعلم أنه سبحانه وتعالى رغب المجاهدين في الآية الأولى بالحشر إلى مغفرة الله، وفي هذه الآية زاد في إعلاء الدرجات فرغبهم ههنا بالحشر إلى الله... فانظر في ترتيب هذه الآيات فإنه قال في الآية الأولى: {لمغفرة من الله} وهو إشارة إلى من يعبده خوفا من عقابه، ثم قال {ورحمة} وهو إشارة إلى من يعبده لطلب ثوابه، ثم قال في خاتمة الآية: {لإلى الله تحشرون} وهو إشارة إلى من يعبد الله لمجرد الربوبية والعبودية، وهذا أعلى المقامات وأبعد النهايات في العبودية في علو الدرجة، ألا ترى أنه لما شرف الملائكة قال: {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته} وقال للمقربين من أهل الثواب: {عند مليك مقتدر} فبين أن هؤلاء الذين بذلوا أنفسهم وأبدانهم في طاعته ومجاهدة عدوه يكون حشرهم إليه، واستئناسهم بكرمه، وتمتعهم بشروق نور ربوبيته، وهذا مقام فيه إطناب، والمستبصر يرشده القدر الذي أوردناه. ولنرجع إلى التفسير: كأنه قيل إن تركتم الجهاد واحترزتم عن القتل والموت بقيتم أياما قليلة في الدنيا مع تلك اللذات الخسيسة، ثم تتركونها لا محالة، فتكون لذاتها لغيركم وتبعاتها عليكم، أما لو أعرضتم عن لذات الدنيا وطيباتها، وبذلتم النفس والمال للمولى يكون حشركم إلى الله، ووقوفكم على عتبة رحمة الله، وتلذذكم بذكر الله، فشتان ما بين هاتين الدرجتين والمنزلتين. واعلم أن في قوله: {لإلى الله تحشرون} دقائق: أحدها: أنه لم يقل: تحشرون إلى الله بل قال: {لإلى الله تحشرون}، وهذا يفيد الحصر، معناه إلى الله يحشر العالمون لا إلى غيره، وهذا يدل على أنه لا حاكم في ذلك اليوم ولا ضار ولا نافع إلا هو، قال تعالى: {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} وقال تعالى: {والأمر يومئذ لله} وثانيها: أنه ذكر من أسماء الله هذا الاسم، وهذا الاسم أعظم الأسماء وهو دال على كمال الرحمة وكمال القهر، فهو لدلالته على كمال الرحمة أعظم أنواع الوعد، ولدلالته على كمال القهر أشد أنواع الوعيد. وثالثها: إدخال لام التأكيد في اسم الله حيث قال: {لإلى الله} وهذا ينبهك على أن الإلهية تقتضي هذا الحشر والنشر، كما قال: {إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى} ورابعها: أن قوله: {تحشرون} فعل ما لم يسم فاعله، مع أن فاعل ذلك الحشر هو الله، وإنما لم يقع التصريح به لأنه تعالى هو العظيم الكبير الذي، شهدت العقول بأنه هو الله الذي يبدئ ويعيد، ومنه الإنشاء والإعادة، فترك التصريح في مثل هذا الموضع أدل على العظمة، ونظيره قوله تعالى: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك} وخامسها: أنه أضاف حشرهم إلى غيرهم، وذلك ينبه العقل على أن جميع الخلق مضطرون في قبضة القدرة ونفاذ المشيئة، فهم سواء كانوا أحياء أم أمواتا لا يخرجون عن قهر الربوبية وكبرياء الإلهية. وسادسها: أن قوله: {تحشرون} خطاب مع الكل، فهو يدل على أن جميع العالمين يحشرون ويوقفون في عرصة القيامة وبساط العدل، فيجتمع المظلوم مع الظالم، والمقتول مع القاتل، والحق سبحانه وتعالى يحكم بين عبيده بالعدل المبرأ عن الجور، كما قال: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} فمن تأمل في قوله تعالى: {لإلى الله تحشرون} وساعده التوفيق علم أن هذه الفوائد التي ذكرناها كالقطرة من بحار الأسرار المودعة في هذه الآية، وتمسك القاضي بهذه الآية على أن المقتول ليس بميت، قال: لأن قوله: {ولئن متم أو قتلتم} يقتضي عطف المقتول على الميت، وعطف الشيء على نفسه ممتنع.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
هذا خطاب عام للمؤمن والكافر. أعلم فيه أن مصير الجميع إليه، فيجازي كلاً بعمله. هكذا قال بعضهم. وكأنه لما رأى الموت والقتل أطلقا ولم يقيدا بذكر سبيل الله كما قيدا في الآية، فهم أنَّ ذلك عام. والظاهر أنّه خطاب للمؤمنين كالخطاب السابق...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر أشرف الموت بادئاً بأشرفه ذكر ما دونه بادئاً بأدناه فقال: {ولئن متم أو قتلتم} أي في أي وجه كان على حسب ما قدر عليكم في الأزل {لإلى الله} أي الذي هو متوفيكم لا غيره، وهو ذو الجلال والإكرام الذي ينبغي أن يعبد لذاته. ودل على عظمته بعد الدلالة بالاسم الأعظم بالبناء للمجهول فقال: {تحشرون} فإن كان ذلك الموت أو القتل على طاعته أثابكم وإلا عاقبكم، والحاصل أنه لا حيلة في دفع الموت على حالة من الحالات: قتل أو غيره، ولا في الحشر إليه سبحانه وتعالى، وأما الخلاص من هول ذلك اليوم ففيه حيلة بالطاعة. والله سبحانه وتعالى الموفق...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قالوا: إن الموت والقتل هنا أعم مما في الآية السابقة، لأن كل من يموت ومن يقتل في سبيل الله، وهي طريق الحق والخير أو في سبيل الشيطان، وهي طريق الباطل والشر. فلا بد أن يحشر إلى الله تعالى دون غيره؛ فهو الذي يحشرهم بعد الموت في نشأة أخرى، وهو الذي يحاسبهم ويجازيهم. وههنا قدم ذكر الموت لأنه أعم من القتل وأكثر. قال الأستاذ الإمام، في معنى الحشر إلى الله تعالى: إنه ليس لله تعالى مكان يحصره فيحشر الناس ويساقون إليه، ولكن الإنسان يغفل في هذه الدار عن الله فينسى هيبته وجلاله، وينصرف عن استشعار عظمته وسلطانه، لاشتغاله بدفع المكاره عن نفسه وجلب اللذات والرغائب لها. وأما ذلك اليوم الذي يحشر له الناس فلا اشتغال فيه بتقويم بنية، ولا التمتع بلذة، ولا مدافعة عدو؛ ولا مقاومة مكروه، ولا بتربية نفس؛ ولا تنزيه حس، وإنما يستقبل فيه كل أحد ما يلاقيه من الله تعالى جزاء على عمله لا يشغله عنه شيء، فيكون بذلك راجعا عن كل شيء كان فيه إلى الله تعالى محشورا مع سائر الناس إليه لا يشغله عنه شيء، قال: وإذا كان مصير كل من يموت أو يقتل إلى الله تعالى مهما كان سبب موته أو قتله، ومهما طالت حياته، فالاشتغال بذكر سبب هذا المصير ومبدأه لا يفيد، وإنما الذي يفيد هو الاهتمام بذلك المستقبل والاشتغال بالاستعداد له، وذلك دأب العقلاء من المؤمنين...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإٍلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) وكلهم مرجوعون إلى الله، محشورون إليه على كل حال. ماتوا على فراشهم أو ماتوا وهم يضربون في الأرض، أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان. فما لهم مرجع سوى هذا المرجع؛ وما لهم مصير سوى هذا المصير.. والتفاوت إذن إنما يكون في العمل والنية وفي الاتجاه والاهتمام.. أما النهاية فواحدة: موت أو قتل في الموعد المحتوم، والأجل المقسوم. ورجعة إلى الله وحشر في يوم الجمع والحشر.. ومغفرة من الله ورحمة، أو غضب من الله وعذاب.. فأحمق الحمقى من يختار لنفسه المصير البائس. وهو ميت على كل حال! بذلك تستقر في القلوب حقيقة الموت والحياة، وحقيقة قدر الله. وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاء جرى به القدر؛ وإلى ما وراء القدر من حكمة، وما وراء الابتلاء من جزاء.. وبذلك تنتهي هذه الجولة في صميم أحداث المعركة، وفيما صاحبها من ملابسات..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقُدّم القتل في الأولى والموتُ في الثانية اعتباراً بعطف ما يظنّ أنّه أبْعد عن الحكم فإنّ كون القتل في سبيل الله سبباً للمغفرة أمر قريب، ولكن كون الموت في غير السبيل مثل ذلك أمر خفي مستبعد، وكذلك تقديم الموت في الثَّانية لأنّ القتل في سبيل الله قد يظنّ أنَّه بعيد عن أن يعقبه الحشر، مع ما فيه من التفنّن، ومن ردّ العجز على الصدر وجعل القتل مبدأ الكلام وعوده...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الخطاب الأول للتبشير بالنسبة للمجاهدين كما أشرنا والخطاب هنا يعم المجاهدين وغيرهم، ولذا قدم فيه (متم) على (قتلتم)، وبين أن الجميع سيلقون ربهم، وأنهم سيحشرون إليه، أي سيجمعون جميعا يوم الحشر مسوقين إليه سبحانه وتعالى، والتعبير بالحشر إشارة إلى ان الجميع يجتمعون لا يفلت منهم احد؛ فالمنافقون والمشركون والمؤمنون الذين قتلوا والذين نجوا مجموعون عند ربهم، وسيلقاهم، وسيحاسب كل امرئ بما كسب، للمجاهدين مقامهم، ولغيرهم مهواهم الذي هووا إليه، ففي هذا إنذار وتبشر وتذكير بلقاء الله العلي الكبير...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنَّ المؤمن يعرف من خلال إيمانه أنَّ الموت لا يمثِّل النهاية المحتومة التي ينتهي إليها وجوده، فيغرق في أمواج العدم الباردة التي تملأ كيانه بالصقيع، حتّى يعيش الحسرة أمام الموت، لأنَّه يفقد بذلك قوّة الحياة في نعيمها ولذتها، ولكنَّه يمثِّل الجسر الذي يلتقي فيه الإنسان باللّه عندما يحشر إليه مع كلّ الخلائق، فيجد عنده الأمن والطمأنينة عندما يقدّم إليه حسابه فيوفيه أجره خالصاً كاملاً غير منقوص، فيدفعه ذلك إلى استقبال حالة الموت بروح هادئة مطمئنة تستعجل لقاء اللّه طلباً لما عنده، وذلك هو الفوز العظيم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وبغضّ النظر عن كلّ ذلك فإن الموت لا يعني الفناء والعدم حتّى يخشى منه هذه الخشية ويخاف منه هذا الخوف، ويستوحش منه هذا الاستيحاش، إنه نقلة من حياة إلى حياة أوسع وأعلى وأجل وأفضل، حياة مزيجة بالخلود موصوفة بالبقاء (ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون).
إن الجدير بالملاحظة في هذه الآيات هو جعل الموت في أثناء السفر، في مصاف الشهادة في سبيل الله، لأن المراد بالسفر هنا هي تلك الأسفار التي يقوم بها الإنسان في سبيل الله ولأجل الله كالسفر وشد الرحال إلى ميادين القتال أو للعمل التبليغي، وذلك لأن الأسفار في تلك العصور كانت محفوفة بالمشاكل، ومقترنة بالمصاعب والمتاعب، وكانت تلازم في الأغلب الأمراض التي تؤدي في أكثر الأحيان إلى الموت، ولذلك لم يكن ذلك الموت بأقل فضلاً من القتل والشهادة في ميادين الجهاد وسوح النضال.
وأما ما احتمله بعض المفسّرين من أن الأسفار المذكورة في هذه الآية هي الأسفار التجارية فهو بعيد جداً عن معنى الآية، لأن الكفّار لم يتأسفوا قط لهذا الأمر بل كان هذا هو نفسه وسيلة من وسائل الحصول على الثروة وتكريسها، هذا مضافاً إلى أن هذا الموضوع لم يكن له أي تأثير في إضعاف روحية المسلمين بعد معركة أُحد، كما وان عدم تنسيق المسلمين مع الكفّار في هذا المورد لم يوجد ولم يسبب أية حسرة للكفّار، ولهذا فإن الظاهر هو أن المراد من الموت في أثناء السفر في هذه الآية هو الموت في السفر الذي يكون بهدف الجهاد في سبيل الله، أو لغرض القيام بغير ذلك من البرامج الإسلامية.