الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَئِن مُّتُّمۡ أَوۡ قُتِلۡتُمۡ لَإِلَى ٱللَّهِ تُحۡشَرُونَ} (158)

وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم : { مُتُّم } و { مُتُّ } : وبابه بضم الميم ، ووافقهم حفص هنا خاصة في الموضعين ، والباقون بالكسر . فأمّا الضم فلأنه فَعَل بفتح العين من ذوات الواو ، وكل ما كان كذلك فقياسه إذا أسند إلى ياء المتكلم وأخواتها أن تضم فاؤه : إمَّا من أول وهلة ، وإمَّا بأن نبدلَ الفتحةَ ضمةً ثم نَنْقُلَها إلى الفاء على اختلاف بين التصريفيين ، فيقال في " قام " وقال وطال : قُمت وقُمنا وقُمن وطُلت وطُلن وما أشبه ، ولهذا جاء مضارعُه على يَفْعُل نحو : يَمُوت . وأما الكسر فالصحيح من قول أهل العربية أنه من لغة مَنْ يقول : مات يمات كخاف يخاف ، والأصلُ : مَوِت بكسر العين كَخوِف فجاء مضارعه على يَفْعَل بفتح العين . قال الشاعر :

بُنَيَّتي سيدةَ البنات *** عِيشي ولا يُؤْمَنُ أَنْ تَماتي

فجاء بمضارعه على يَفْعَل بالفتح ، فعلى هذه/ اللغة يَلْزَم أن يقال في الماضي المسند إلى التاءِ وإحدى أخواتها : " مِتُّ " بالكسرِ ليس إلا ، وهو أنَّا نَقَلْنا حركةَ الواو إلى الفاء بعد سَلْبِ حركتِها دلالةً على بنيةِ الكلمة في الأصلِ . وهذا أَوْلى مِنْ قولِ مَنْ يقولُ : إنَّ " مِتَّ " بالكسر مأخوذٌ من لغة من يقول : " يَمُوت " بالضم في المضارع ، وجعلوا ذلك شاذاً في القياس كثيراً في الاستعمال كالمازني وأبي علي الفارسي ، ونقله بعضهم عن سيبويه صريحاً ، وإذا ثَبَتَ ذلك لغةً فلا معنى إلى ادِّعاء الشذوذ فيه . وأمَّا حفص فجمع بين اللغتين .

وقرأ الجماعة : " تَجْمَعُون " بالخطاب جرياً على قوله : " ولئن قُتِلتم " ، وحفص بالغيبة : إمَّا على الرجوع على الكفار المتقدمين ، وإما على الالتفات من خطاب المؤمنين .

وهذه ثلاثة مواضع : تقدَّم الموتُ على القتل في الأول منها وفي الأخير ، والقتلُ على الموت في المتوسط ، وذلك أنَّ الأول لمناسبةِ ما قبله من قوله : { إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى } فرجعَ الموتُ لِمَنْ ضَرَب في الأرض ، والقتلُ لِمَنْ غزا ، وأما الثاني فلأنه مَحَلُّ تحريضٍ على الجهاد فَقَدَّم الأهمَّ الأعرفَ ، وأمَّا الآخرُ فلأنَّ الموتَ أغلبُ .

وقوله : { لإِلَى الله } اللامُ جوابُ القسم فهي داخلةٌ على { تُحْشَرُونَ } ، و " إلى الله " متعلقٌ به ، وإنما قُدِّم للاختصاصِ أي : إلى الله لا إلى غيره يكونُ حشرُكُم ، أو للاهتمام ، وحَسَّنَه كونُه فاصلةً ، ولولا الفصلُ لوجب توكيدُ الفعل بنونٍ ، لأنَّ المضارعَ المثبت إذا كانَ مستقبلاً وَجَبَ توكيدُه مع اللام خلافاً للكوفيين ، حيثُ يجيزون التعاقبَ بينهما ، كقوله :

وقتيلِ مُرَّةَ أَثْأَرَنَّ فإنه *** *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فجاءَ بالنونِ دونَ اللامِ ، وقوله :

لِئَنْ تكُ قد ضَاقَتْ عليكم بيوتُكم *** لَيَعْلَمُ ربي أنَّ بيتيَ واسِعُ

فجاء باللامِ دون النون ، والبصريون يجعلونه ضرورةَ . فإنْ فُصِل بين اللام بالمعمول كهذه الآية أو ب " قد " نحو : " والله قد أقوم " وقوله :

كَذَبْتِ لقد أُصْبي على المَرْء عِرْسَه *** *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أو بحرفِ تنفيس نحو : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ } [ الضحى : 4 ] فلا يجوزُ توكيده حينئذ بالنون . قال الفارسي : " دخلتِ النونُ فرقاً بين لام اليمين ولام الابتداء ، ولامُ الابتداء لا تدخل على الفَضْلة ، فبدخول لام اليمين على الفَضْلة حَصَلَ الفرقُ فلم يُحْتَجْ إلى النون ، وبدخولِها على " سوف " حَصَل الفرقُ أيضاً فلا حاجةً إلى النونِ ، ولامُ الابتداء لا تَدْخُل على الفعلِ إلا إذا كان حالاً ، أمَّا مستقبلاً فلا " .