اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَئِن مُّتُّمۡ أَوۡ قُتِلۡتُمۡ لَإِلَى ٱللَّهِ تُحۡشَرُونَ} (158)

قوله : { وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } هذا الترتيب في غاية الحُسْنِ ؛ فإنه قال في الآية الأولى : { لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ } وهذه إشارةٌ إلى مَنْ عَبَدَه خوفاً من عقابه ، ثم قال : { وَرَحْمَةٌ } وهو إشارة إلى من عبده لطلب ثوابه ، ثم ختمها بقوله : { لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } وهو إشارةٌ إلى مَنْ عبده لمجردِ لمجردِ العبوديةِ والربوبيةِ ، وهذا أعلى المقاماتِ ، يروى أن عيسى -عليه السَّلامُ - مَرَّ بأقَوامٍ نُحِفَتْ أبْدَانُهُمْ ، واصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ ، ورأى عليهم آثارَ العبادة ، فقال : ماذا تَطْلبُون ؟ فقالوا : نخشى عذابَ اللَّهِ ، فقال : هو أكرمُ من لا يخلصكم من عذابه . ثم مرَّ بأقوام آخرينَ ، فرأى عليهم تلك الآثار ، فسألهم ، مَاذَا تَطْلُبُونَ ؟ فقالوا : نطلب الجنَّةَ والرَّحْمَةَ ، فقال : هو أكرم من أن يمنعكم رحمته . ثم مرَّ بقوم ، فرأى آثار العبودية عليهم أكثر ، فسألهم : فقالوا : نعبده لأنه إلهُنَا ، ونحن عبيدُهُ ، لا لرغبة ولا لرهبة ، فقال : أنتم العبيد المخلصونَ ، والمتعبدون المحقون .

قوله : { لإِلَى الله } اللام جواب القسم ، فهي داخلة على { تُحْشَرُونَ } و { وَإِلَى اللَّهِ } متعلقٌ به ، وإنما قُدِّم للاختصاص ، أي : إلى الله - لا إلى غيره - يكون حشركم ، أو للاهتمام به ، وحسًّنه كونُه فاصلة ، ولولا الفصل لوجب توكيد الفعل بالنون ؛ لأن المضارع المثبت إذا كان مستقبلاً وجب توكيده [ بالنون ] ، مع اللام ، خلافاً للكوفيين ؛ حيث يُجيزون التعاقُبَ بينهما .

كقول الشاعر : [ الكامل ]

وَقَتِيلِ مُرَّةَ أثأرَنَّ *** . . . {[6133]}

فجاء بالنون دون اللام .

وقول الآخر : [ الطويل ]

لَئِنْ يكَ قَدْ ضَاقََتْ عَلَيْكُمْ بُيُوتُكُمْ *** لَيَعْلَمُ رَبِّي أنَّ بَيْتِيَ وَاسِعُ{[6134]}

فجاء باللام دون النون ، والبصريون يجعلونه ضرورة .

فإن فُصِلَ بين اللام بالمعمول - كهذه الآية - أو بقَدْ ، نحو : والله لقد أقومُ .

وقوله : [ الطويل ]

كَذَبْتِ لَقَدْ أُصْبِي عَلَى المرْءِ عِرْسَهُ *** . . . {[6135]}

أو بحرف التنفيس ، كقوله تعالى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } [ الضحى : 5 ] فلا يجوز توكيده - حينئذ - بالنون ، قال الفارسيُّ : " الأصل دخولُ النُّونِ ، فَرْقاً بين لام اليمينِ ، ولام الابتداءِ ، ولام الابتداء لا تدخل على الفضلاتِ ، فبدخول لام اليمين على الفضلة حصل الفرقُ ، فلم يُحْتَجْ إلى النون وبدخولها على " سوف " حصل الفرق - أَيضاً - فلا حاجةَ إلى النُّونِ ولام الابتداء لا تدخل على الفعل إلا إذا كان حالاً ، أما مستقبلاً فلا " .

وأتى بالفعل مبنيًّا لما لم يسم فاعله - مع أن فاعل الحشرِ هُوَ اللهُ - وإنما لم يصرح به ، تعظيماً .


[6133]:هذا جزء من بيت لعامر بن الطفيل والبيت بتمامه: وقتيل مرة أثأرن فإنه *** فدع وإن أخاكم لم يقصد ينظر ديوانه ص 56 والمفضليات (364) والهمع 2/42 والدرر 2/47 وشرح الحماسة 2/558 والأمالي الشجرية 1/369 و 2/221 والخزانة 10/60 وشرح أبيات المغني 8/3 وضرائر الشعر ص 157 والدر المصون 2/244.
[6134]:تقدم برقم 718.
[6135]:هذا صدر بيت لامرئ القيس والبيت بتمامه: كذبت لقد أصبى على المرء عرسه *** وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي ينظر ديوانه (28) والكامل 1/68 وارتشاف الضرب 2/486 وأشعار الشعراء الستة الجاهليين 1/46 وأمالي القالي 1/41 ورغبة الآمل من كتاب الكامل 1/222 والدر المصون 2/245.