ثم رغبهم بنوع آخر فقال : { ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون } كأنه قيل : إن تركتم الجهاد وتم لكم الاحتراز عن الموت أو القتل بقيتم أياماً قلائل في الدنيا مع اللذات الخسيسة الحسية والخيالية فتركتموها لا محالة فتكون لذاتها لغيركم وتبعاتها عليكم ، ولو أعرضتم عن اللذات الفانية وبذلتم النفس والمال في دين الله وصلتم إلى أعلى الدرجات وهي مقام العندية . وإنما قدم القتل على الموت في الآية الأولى وعكس في الثانية ليقع الابتداء والختم على ما هو أفضل ، أو لأن الآية الأولى سيقت لبيان فضل الجهاد والقتل في سبيله ، فقدم ما هو الأغلب من حال المجاهدين الذين يفارقون الدنيا وهو القتل ، الثانية سيقت لبيان أن حشر الخلائق كلهم إليه بأي وجه يفارقون الدنيا .
ولا شك أن الغالب على أحوال الخلق كلهم الموت ، ولهذا السر أطلق القتل إطلاقاً ليعم أنواع القتل كلها . وفي قوله : { لإلى الله تحشرون } لطائف منها : تقديم الجار على الفعل لإفادة الحصر ، وأنهم لا يحشرون إلى غيره ، وأنه لا حكم لأحد في ذلك اليوم إلا له ، ومنها تخصيص اسم الله بالذكر ليدل على كمال اللطف والقهر ، فهو لدلالته على كمال اللطف أعظم أنواع الوعد ، ولدلالته على كمال القهر أشد أنواع الوعيد . ومنها إدخال لام التوكيد القسمي في الحرف المتصل باسم الله تنبيهاً على أن الإلهية تقتضي هذا الحشر لحكمة المجازاة . ومنها بناء { تحشرون } على المفعول تعويلاَ على ما هو مركوز في العقول من أنه هو الذي يبدىء ويعيد ، لا قدرة على الإعادة لأحد غيره . ومنها أنه أضاف حشرة إلى غيرهم ليعلم أنهم أحياء كانوا أو أمواتاً لا يخرجون عن قبضته . ومنها أنه خاطب الكل ليعلم أن القاتل والمقتول والظالم والمظلوم والقاعد والمجاهد كلهم في بساط العدل وفضاء القضاء موقوفون . واعلم أنه تعالى ذكر في الآيتين المغفرة والرحمة والحشر إليه . فالأول إشارة إلى من يعبده خوفاً من عقابه ، والثاني إشارة إلى من يعبده طمعاً في ثوابه ، والثالث إشارة إلى من يعبده لأنه يستحق العبادة . فهم أهل الحشر إلى الله لا إلى ثوابه ولا إلى إزالة عقابه ، وما أحسن هذا النسق ! يروى أن عيسى عليه السلام مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم ، ورأى عليهم سيما الطاعة فقال : ماذا تطلبون ؟ فقالوا : نخشى عذاب الله . فقال : هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه . ثم مر بآخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم فقالوا : نطلب الجنة والرحمة . فقال : هو أكرم من أن يمنعكم رحمته . ثم مر بقوم ثالث ورأى عليهم سمات العبودية أكثر فسألهم فقالوا : نعبده لأنه إلهنا ونحن عبيده لا لرهبة ولا لرغبة . فقال : أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحققون . قال القاضي : في الآية دليل على أن المقتول ليس بميت وإلا كان قوله : { ولئن متم أو قتلتم } عطفاً للشيء على نفسه . قلت : لا ، ولكنه عطف الأخص على الأعم . ثم إنه سبحانه لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم ، زاد في الفضل والإحسان بأن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم حين عفا عنهم وترك التغليظ عليهم في انهزامهم . روي أن امرأة عثمان دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم - وكان النبي صلى الله عليه وسلم وعلي يغسلان السلاح - فقالت : ما فعل عثمان ؟ أما والله لا تجددونه أمام القوم .
فقال لها علي : ألا إن عثمان فضح الذمار اليوم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه . وروي أنه قال حينئذٍ : أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا . ولما دخل عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال : لقد ذهبتم فيها عريضة . وعنه أنه قال : " إنما أنا لكم مثل الوالد لولده ، فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها " وقال صلى الله عليه وسلم : " لا حلم أحب إلى الله من حلم إمام ورفقه ، ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه " فلما كان صلى الله عليه وسلم إمام العالمين وجب أن يكون أكثرهم حلماً وأحسنهم خلقاً لأن الغرض من البعثة - وهو التزام التكاليف - لا يتم إلا إذا مالت قلوب الأمة إليه ، وسكنت نفوسهم لديه ، ورأوا فيه آثار الشفقة وأمارات النصيحة . وعن بعض الصحابة أنه قال : لقد أحسن الله إلينا كل الإحسان . كنا مشركين فلو جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين جملة وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا فما كنا ندخل في الإسلام ، ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة ، فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الإيمان قبلنا ما وراءها ، كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم هذا الدين وكملت هذه الشريعة .
واعلم أن من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب ، فإنه يعلم أن الحوادث الأرضية كلها مستندة إلى الأسباب الإلهية ، فيعلم أن الحذر لا يدفع القدر ، فلا جرم إذا فاته مطلوب له لم يغضب ، وإذا حصل له مطلوب لم يأنس به لأنه مطلع على الروحانيات التي هي أشرف من هذه الجسمانيات ، فلا ينازع أحداً في هذا العالم في طلب شيء من لذاتها وطيباتها ، ولا يغضب على شيء بسبب فوات شيء من مطالبها ، فيكون حسن الخلق طيب العشرة مع الخلق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.