غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَلَئِن مُّتُّمۡ أَوۡ قُتِلۡتُمۡ لَإِلَى ٱللَّهِ تُحۡشَرُونَ} (158)

151

ثم رغبهم بنوع آخر فقال : { ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون } كأنه قيل : إن تركتم الجهاد وتم لكم الاحتراز عن الموت أو القتل بقيتم أياماً قلائل في الدنيا مع اللذات الخسيسة الحسية والخيالية فتركتموها لا محالة فتكون لذاتها لغيركم وتبعاتها عليكم ، ولو أعرضتم عن اللذات الفانية وبذلتم النفس والمال في دين الله وصلتم إلى أعلى الدرجات وهي مقام العندية . وإنما قدم القتل على الموت في الآية الأولى وعكس في الثانية ليقع الابتداء والختم على ما هو أفضل ، أو لأن الآية الأولى سيقت لبيان فضل الجهاد والقتل في سبيله ، فقدم ما هو الأغلب من حال المجاهدين الذين يفارقون الدنيا وهو القتل ، الثانية سيقت لبيان أن حشر الخلائق كلهم إليه بأي وجه يفارقون الدنيا .

ولا شك أن الغالب على أحوال الخلق كلهم الموت ، ولهذا السر أطلق القتل إطلاقاً ليعم أنواع القتل كلها . وفي قوله : { لإلى الله تحشرون } لطائف منها : تقديم الجار على الفعل لإفادة الحصر ، وأنهم لا يحشرون إلى غيره ، وأنه لا حكم لأحد في ذلك اليوم إلا له ، ومنها تخصيص اسم الله بالذكر ليدل على كمال اللطف والقهر ، فهو لدلالته على كمال اللطف أعظم أنواع الوعد ، ولدلالته على كمال القهر أشد أنواع الوعيد . ومنها إدخال لام التوكيد القسمي في الحرف المتصل باسم الله تنبيهاً على أن الإلهية تقتضي هذا الحشر لحكمة المجازاة . ومنها بناء { تحشرون } على المفعول تعويلاَ على ما هو مركوز في العقول من أنه هو الذي يبدىء ويعيد ، لا قدرة على الإعادة لأحد غيره . ومنها أنه أضاف حشرة إلى غيرهم ليعلم أنهم أحياء كانوا أو أمواتاً لا يخرجون عن قبضته . ومنها أنه خاطب الكل ليعلم أن القاتل والمقتول والظالم والمظلوم والقاعد والمجاهد كلهم في بساط العدل وفضاء القضاء موقوفون . واعلم أنه تعالى ذكر في الآيتين المغفرة والرحمة والحشر إليه . فالأول إشارة إلى من يعبده خوفاً من عقابه ، والثاني إشارة إلى من يعبده طمعاً في ثوابه ، والثالث إشارة إلى من يعبده لأنه يستحق العبادة . فهم أهل الحشر إلى الله لا إلى ثوابه ولا إلى إزالة عقابه ، وما أحسن هذا النسق ! يروى أن عيسى عليه السلام مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم ، ورأى عليهم سيما الطاعة فقال : ماذا تطلبون ؟ فقالوا : نخشى عذاب الله . فقال : هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه . ثم مر بآخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم فقالوا : نطلب الجنة والرحمة . فقال : هو أكرم من أن يمنعكم رحمته . ثم مر بقوم ثالث ورأى عليهم سمات العبودية أكثر فسألهم فقالوا : نعبده لأنه إلهنا ونحن عبيده لا لرهبة ولا لرغبة . فقال : أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحققون . قال القاضي : في الآية دليل على أن المقتول ليس بميت وإلا كان قوله : { ولئن متم أو قتلتم } عطفاً للشيء على نفسه . قلت : لا ، ولكنه عطف الأخص على الأعم . ثم إنه سبحانه لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم ، زاد في الفضل والإحسان بأن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم حين عفا عنهم وترك التغليظ عليهم في انهزامهم . روي أن امرأة عثمان دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم - وكان النبي صلى الله عليه وسلم وعلي يغسلان السلاح - فقالت : ما فعل عثمان ؟ أما والله لا تجددونه أمام القوم .

فقال لها علي : ألا إن عثمان فضح الذمار اليوم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه . وروي أنه قال حينئذٍ : أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا . ولما دخل عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال : لقد ذهبتم فيها عريضة . وعنه أنه قال : " إنما أنا لكم مثل الوالد لولده ، فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها " وقال صلى الله عليه وسلم : " لا حلم أحب إلى الله من حلم إمام ورفقه ، ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه " فلما كان صلى الله عليه وسلم إمام العالمين وجب أن يكون أكثرهم حلماً وأحسنهم خلقاً لأن الغرض من البعثة - وهو التزام التكاليف - لا يتم إلا إذا مالت قلوب الأمة إليه ، وسكنت نفوسهم لديه ، ورأوا فيه آثار الشفقة وأمارات النصيحة . وعن بعض الصحابة أنه قال : لقد أحسن الله إلينا كل الإحسان . كنا مشركين فلو جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين جملة وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا فما كنا ندخل في الإسلام ، ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة ، فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الإيمان قبلنا ما وراءها ، كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم هذا الدين وكملت هذه الشريعة .

واعلم أن من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب ، فإنه يعلم أن الحوادث الأرضية كلها مستندة إلى الأسباب الإلهية ، فيعلم أن الحذر لا يدفع القدر ، فلا جرم إذا فاته مطلوب له لم يغضب ، وإذا حصل له مطلوب لم يأنس به لأنه مطلع على الروحانيات التي هي أشرف من هذه الجسمانيات ، فلا ينازع أحداً في هذا العالم في طلب شيء من لذاتها وطيباتها ، ولا يغضب على شيء بسبب فوات شيء من مطالبها ، فيكون حسن الخلق طيب العشرة مع الخلق .

/خ160