قوله تعالى : { ولما جهزهم بجهازهم } ، أي : حمل لكل واحد بعيرا بعدتهم ، { قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم } ، يعني بنيامين ، { ألا ترون أني أوفي الكيل } أي : أتمه ولا أبخس الناس شيئا ، فأزيدكم حمل بعير لأجل أخيكم ، وأكرم منزلتكم وأحسن إليكم ، { وأنا خير المنزلين } ، قال مجاهد : أي خير المضيفين . وكان قد أحسن ضيافتهم .
وقوله - سبحانه - { وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائتوني بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ . . . } بيان لما فعله يوسف معهم بعد ان عرفهم دون أن يعرفوه .
وأصل الجهاز - بفتح الجيم وكسرها قليل - : ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع ، يقال : جهزت المسافر ، أى هيأت له جهازه الذي يحتاج إليه في سفره ، ومنه جهاز العروس وهو ما تزف به إلى زوجها ، وجهاز الميت وهو ما يحتاج إليه في دفنه . . .
والمراد : أن يوسف بعد ان دخل عليه إخوته وعرفهم ، أكرم وفادتهم ، وعاملهم معاملة طبية جعلتهم يأنسون إليه ، وهيأ لهم ما هم في حاجة إلأيه من الطعام وغيره ، ثم استدرجهم بعد ذلك في الكلام حتى عرف منهم على وجه التفصيل أحوالهم .
وذلك لأن قوله لهم { ائتوني بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ } يستلزم أن حديثا متنوعاً نشأ بيته وبينهم ، عرف منه يوسف ، أن لهم أخا من أبيهم لم يحضر معهم وإلا فلو كان هذا الطلب منه لهم بعد معرفته لهم مباشرة ، لشعروا بأنه يعرفهم وهو لا يريد ذلك .
ومن هنا قال المفسرون : إن قوله { ائتوني بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ } يقتضى كلاماً دار بينه وبينهم نشأ عنه هذا الطلب ، ومما قالوه في توضيح هذا الكلام : ما روى من أنهم بعد أن دخلوا عليهم قال لهم : من أنتم وما شأنكم ؟ فقالوا : نحن قوم من أهل الشام ، جئنا نمتار ، ولنا أب شيخ صديق نبى من الأنبياء اسمه يعقوب ، فقال لهم : كم عددكم قالوا عشرة ، وقد كنا اثني عشر ، فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك ، وكان أحبنا إلى أبينا ، وقد سكن بعده إلى أخ له أصغر منه ، هو باق لديه يتسلى به ، فقال لهم حينئذ ؛ { ائتوني بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ } .
ويروى أنه قال لهم ذلك بعد أن طلبوا منه شيئا زائداً عن عددهم ، لأن لهم أخاً لم يحضر معهم ، فأعطاهم ما طلبوه ، واشترط عليهم إحضار أخيهم هذا معهم ، ليتأكد من صدقهم .
والمعنى : وبعد أن أعطى يوسف إخوته ما هم في حاجة إليه ، وعرف منهم أن لهم أخاً من أبيهم قد تركوه في منازلهم ولم يحضر معهم ، قال لهم : أنا أريدكم في الزيارة القادمة لى ، أن تحضروه معكم لأراه . . .
وقوله { مِّنْ أَبِيكُمْ } حال من قوله { بِأَخٍ لَّكُمْ } أى : أخ لكم حاله كونه من أبيكم ، وليس شقيقاً لكم ، فإن هذا هو الذي أريده ولا أريد غيره .
وهذا من باب المبالغة في عدم الكشف لهم عن نفسه ، حتى لكأنه لا معرفة له بهم ولا به إلا من ذكرهم إياه له .
وقوله : { أَلاَ تَرَوْنَ أني أُوفِي الكيل وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين } تحريض لهم على الإِتيان به ، وترغيب لهم في ذلك حتى ينشطوا في إحضاره معهم .
أى : ألا ترون أني أكرمت وفادتكم ، وأعطيتكم فوق ما تريدون من الطعام ، وأنزلتكم ببلدي منزلاً كريماً . . . وما دام أمري معكم كذلك ، فلابد من أن تأتوني معكم بأخيكم من أبيكم في المرة القادمة ، لكي أزيد في إكرامكم وعطائكم .
والمراد بإيفاء الكيل : إتمامه بدون تطفيف أو تنقيص .
وعبر بصيغة الاستقبال { أَلاَ تَرَوْنَ . . . } مع كونه قد قال هذا القول بعد تجهيزه لهم . للدالة على أن إيفاءه هذا عادة مستمرة له معهم كلما أتوه .
وجملة { وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين } حالية ، والمنزل : المضيف لغيره .
أى : والحال أنى خير المضيفين لمن نزل في ضيافتي ، وقد شاهدتم ذلك بأنفسكم .
ولكنا ندرك من السياق أنه أنزلهم منزلا طيبا ، ثم أخذ في إعداد الدرس الأول :
( ولما جهزهم بجهازهم قال : ائتوني بأخ لكم من أبيكم ) . .
فنفهم من هذا أنه تركهم يأنسون إليه ، واستدرجهم حتى ذكروا له من هم على وجه التفصيل ، وأن لهم أخا صغيرا من أبيهم لم يحضر معهم لأن أباه يحبه ولا يطيق فراقه . فلما جهزهم بحاجات الرحلة قال لهم :
( قال : ائتوني بأخ لكم من أبيكم ) . .
وقد رأيتم أنني أوفي الكيل للمشترين . فسأوفيكم نصيبكم حين يجيء معكم ؛ ورأيتم أنني أكرم النزلاء فلا خوف عليه بل سيلقى مني الإكرام المعهود :
{ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ } أي : وَفَّاهم كيلهم ، وحمل لهم أحمالهم قال : ائتوني بأخيكم هذا الذي ذكرتم ، لأعلم صدقكم فيما ذكرتم ، { أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزلِينَ } يرغبهم في الرجوع إليه ، ثم رَهَّبَهم فقال : { فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ } أي : إن لم تقدموا به معكم في المرة الثانية ، فليس لكم عندي ميرة ، { وَلا تَقْرَبُونِ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } أي : سنحرص على مجيئه إليك بكل ممكن ولا نبقي مجهودا لتعلم صدقنا فيما قلناه .
وذكر السدي : أنه أخذ منهم رهائن حتى يقدموا به معهم . وفي هذا نظر ؛ لأنه أحسن إليهم ورغبهم كثيرا ، وهذا لحرصه{[15223]} على رجوعهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمّا جَهّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنّيَ أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } .
يقول : ولما حمل يوسف لإخوته أباعِرَهُم من الطعام ، فأوقر لكل رجل منهم بعيره ، قال لهم : ائْتُونِي بأخٍ لَكُمْ مِنْ أبِيكُمْ كيما أحمل لكم بعيرا آخر فتزدادوا به حمل بعير آخر . ألا تَرَوْنَ أنّي أوفِي الكَيْلِ فلا أبخسه أحدا وأنا خَيْرُ المُنْزِلِينَ ، وأنا خير من أنزل ضيفا على نفسه من الناس بهذه البلدة ، فأنا أضيفكم . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وأنا خَيْرُ المُنْزِلِينَ يوسف يقول : أنا خير من يضيف بمصر .
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما جهز يوسف فيمن جهز من الناس ، حمل لكلّ رجل منهم بعيرا بعدتهم ، ثم قال لهم : ائْتُونِي بأخٍ لَكُمْ مِنْ أبِيكُمْ أجعل لكم بعيرا آخر ، أو كما قال . ألا تَرَوْنَ أنّي أُوفِي الكَيْلَ : أي لا أبخس الناس شيئا ، وأنا خَيْرُ المُنْزِلِينَ : أي خير لكم من غيري ، فإنكم إن أتيتم به أكرمت منزلتكم وأحسنت إليكم ، وازددتم به بعيرا مع عدتكم ، فإني لا أعطي لكم كل رجل منكم إلا بعيرا . فإنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ لا تقربوا بلدي .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ائْتُونِي بأخٍ لَكُمْ مِنْ أبِيكُمْ يعني بنيامين ، وهو أخو يوسف لأبيه وأمه .