السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمۡ قَالَ ٱئۡتُونِي بِأَخٖ لَّكُم مِّنۡ أَبِيكُمۡۚ أَلَا تَرَوۡنَ أَنِّيٓ أُوفِي ٱلۡكَيۡلَ وَأَنَا۠ خَيۡرُ ٱلۡمُنزِلِينَ} (59)

ثم إنّ يوسف عليه السلام أمر بإنزالهم وإكرامهم وكانت عادته أن لا يزيد أحداً على حمل بعير ، وكانوا عشرة فأعطاهم عشرة أحمال كما قال تعالى : { ولما جهزهم بجهازهم } ، أي : وفاهم كيلهم . والجهاز ما يعدّ من الأمتعة للنقلة كعدد السفر وما يحمل من بلدة إلى أخرى وما تزف به المرأة إلى زوجها ، فقالوا : إن لنا شيخاً كبيراً وأخاً آخر بقي معه ، وذكروا أنّ أباهم لأجل سنه وشدّة حزنه لم يحضر ، وأن أخاهم في خدمة أبيه ولا بدّ لهما أيضاً من حملين آخرين من الطعام ، فلما ذكروا ذلك قال يوسف عليه السلام : فهذا يدل على أنّ حب أبيكم له أزيد من حبه لكم ، وهذا شيء عجيب ؛ لأنكم أنتم مع جمالكم وعقلكم وأدبكم إذا كانت محبة أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم دل ذلك على أنه أعجوبة في العقل والأدب فجيئوني به حتى أراه كما قال تعالى حكاية عنه : { قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم } ، أي : الذي خلفتموه عنده .

وقيل : إنه لما نظر إليهم وكلموه بالعبرانية قال لهم : اخبروني من أنتم وما أمركم ؟ فإني أنكرت شأنكم قالوا : قوم من أرض الشأم أصابنا ما أصاب الناس ، فجئنا نمتار فقال : لعلكم جئتم لتنظروا إلى عورة بلادنا ؟ قالوا : لا والله لسنا بجواسيس إنما نحن إخوة بنو أب واحد ، وهو شيخ صديق ، يقال له يعقوب نبيّ من أنبياء الله تعالى ، قال : وكم كنتم ؟ قالوا : كنا اثنى عشر فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك فيها ، وكان من أحبنا إلى أبينا قال : فكم أنتم هاهنا ؟ قالوا : عشرة . قال : وأين الابن الآخر ؟ قالوا : عند أبينا ؛ لأنه أخو الذي هلك وأبوه مبتلى به . قال : فمن يعلم أن الذي تقولون حق ؟ قالوا : أيها الملك إنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد . فقال يوسف عليه السلام : فائتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين ، فأنا أرضى بذلك . فقالوا : إنّ أبانا يحزن على فراقه وسنراوده عنه . قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني بأخيكم ، فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون ، وكان أحسنهم رأياً في يوسف فخلفوه عنده ، ثم إنه قال لهم : { ألا ترون أني أوفي الكيل } ، أي : أتمه ولا أبخس منه شيئاً ، وقرأ نافع بفتح الياء من أني ، والباقون بالسكون ، وأما الياء من { أوفي } فجميع القراء يثبتونها في الوقف لثباتها في الرسم ، وحذفوها في الوصل لالتقاء الساكنين { وأنا خير المنزلين } ، أي : المضيفين فإنه كان قد أحسن ضيافتهم مدّة إقامتهم عنده . قال الرازي : وهذا يضعف قول من يقول من المفسرين أنه اتهمهم ونسبهم إلى أنهم عيون وجواسيس ، ولو شافههم بهذا الكلام فلا يليق به أن يقول لهم : { ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين } وأيضاً يبعد من يوسف عليه السلام مع كونه صديقاً أن يقول لهم : أنتم عيون وجواسيس مع أنه يعرف براءتهم عن هذه التهمة ؛ لأنّ البهتان لا يليق بحال الصديق .