اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمۡ قَالَ ٱئۡتُونِي بِأَخٖ لَّكُم مِّنۡ أَبِيكُمۡۚ أَلَا تَرَوۡنَ أَنِّيٓ أُوفِي ٱلۡكَيۡلَ وَأَنَا۠ خَيۡرُ ٱلۡمُنزِلِينَ} (59)

قوله : { وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ } العامة على فتح الجيم وقرىء بكسرها ، وهما لغتان ، فيما يحتاجه الإنسان من زادٍ ومتاعٍ . منه : جهَاز العرُوس ، وجهازُ الميت .

قال الليثُ رحمه الله : جَهَّزْتُ القَوْمَ تَجْهِيزاً : إذا تكلَّفت لهُمْ جهَازهُمْ للسَّفرِ ، وقال : وسمعت أهل البصرة يقولون : الجِهازُ بالكسر .

قال الأزهريُّ : " القراءُ كلُّهم على فتح الجيم ، والكسر لغةٌ ليست بجيدةٍ " .

فصل

قال المفسرون : حمل لكُلِّ واحدٍ منهم بعيراً ، وأكرمهم بالنزُولِ وأعطاهم ما احتاجوا إليه ؛ فذلك قوله تعالى : { وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائتوني بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ } ولم يقل بأخيكم بالإضافة ؛ مبالغة في عدم تعرفه بهم .

ولذلك فرَّقوا بين مررت بغلامك ، وبغلام لك .

فإنَّ الأول يقتضي عرفانك بالغُلامِ ، وأنَّ بينك وبين مُخَاطِبك نوعُ عهدٍ .

والثاني لا يَقْتَضِي ذلك ، وقد تخبرُ عن المعرفةِ إخبار النكرةِ ، فتقول : قال رجلٌ كذا ، وأنت تعرفه ؛ لصدقِ إطلاقِ النكرةِ على المعرفةِ .

واعلم أنَّهُ لا بُدَّ من كلامٍ سابقٍ يكون سبباً لعرفان يوسف صلوات الله وسلامه عليه [ وطلبه ل ] أخيهم ، وذكروا فيه وجوهاً :

الأول وهو أحسنها : أنَّ عادة يوسف عليه الصلاة والسلام مع الكلِّ أن يعطي كل احدٍ حمل بعيرٍ ، وكان إخوته عشرةً ؛ فأعطاهم عشرة أحمال ؛ فقالوا : إنَّ لنا أباً شيخاً كبيراً ، وأخاً آخر بقي معه ، وذكروا أنَّ أباهم لاجل كبر سنِّه ، وشدَّة حزنه لم يحضرْ ، وأنَّ أخاهم بقي في خدمةِ أبيه ، فلما ذكروا ذلك قال يوسف : هذا يدلُّ على أنَّ حبَّ أبيكم له أزيدُ من حُبّه لكم ، وهذا شيءٌ عجيبٌّ ! لأنكم مع جمالكم ، وعقلكم ، وأدبكم ، إذا كانت محبةُ أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم ، دل هذا على أن ذلك أعجوبةٌ في العقلِ والفضلِ والأدبِ ، فائتُونِي به حتى أراهُ .

الثاني : لعلَّهم لما ذكروا أباهم ، قال يوسف : فَلِمَ تركتموه وحيداً فريداً ؟ .

قالوا ما تركناه وحيداً بل بقي عنده واحد ، فقال لهم : ولِمَ استخلصه لنفسه ؟ لأجل نقصِ في جسده ؟ فقالوا : لا بل لأجلِ أنه يُحبُّه أكثر من محبته لسائرِ الأولادِ ، فقال : لما ذكرتم أن أباكم رجلٌ عالمٌ حكيمٌ ، ثم إنه خصَّه بمزيدِ المحبةِ ، وجب أن يكن زائداً عليكم في الفضلِ ، والكمالِ مع أنِّي أراكم فضلاء علماء حكماء ؛ فاشتاقت نفسي إلى رؤية ذلك الأخ ؛ فائتُونِي بهِ .

الثالث : قال المفسرون : ولما دخَلُوا عليه وكلَّمُوه بالعِبرانيَّةِ ، قال لهم : مَنْ أنتُمْ ؟ وما أمركم ؟ فإني أنكرتُ شأنكم ؟ .

قالوا : قومٌ من أرضِ الشام رعاة ، أصابنا الجَهْد ؛ فجِئْنَا نَمْتَارُ ، فقال : لعلكم جِئتُم عُيُونا تنظرون عَوْرَة بلادِي ، قالوا : معَاذ اللهِ ! ما نحن بجَواسِيسَ ؛ إنما نحنُ إخوةٌ بنو إبٍ واحدٍ ، وهو شيخٌ صدِّيقٌ يقال له يعقوب نَبِيٌّ من أنبياء الله تعالى ؟

قال : كم أنتم ؟ قالوا : كُنَّا اثني عشر ، هلك مِنَّا واحدٌ ، وبقي واحدٌ مع الأب ؛ يتسلَّى به عن ذلك الولدِ الذي هلك ، ونحن عشرةٌ .

قال : فمن يعلم أنَّ الذي تقولونه حق ؟ .

قالوا : أيُّها الملك : إننَّا ببلادٍ لا يعرفنا فيها أحدٌ .

قال : فدعوا بعضكم عندي ؛ رهينةً ، وائْتُونِي بأخٍ لكم ، ليبلغ لكم رسالة أبيكم إن كنتم صادقين .

فعند هذا أقرعوا بينهم ؛ فأصبت القرعة شمعون ، وكان أحسنهم رأياً في يُوسُفَ ، فخلفوه عنده .

ثم إنه تعالى حَكَى عنه أنَّه قال : { ألا ترون إني أوفي الكيل } ، أي : أوَفِّيه ، ولا أبخسُه ، وأزيدكم حمل بعيرٍ ؛ لأجل أخيكم .

{ وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين } أي : خَير المضيفين ؛ لأنه أحسن إنزالهم ، وأحسن ضيافتهم .

قال ابنُ الخطيب رحمه الله : " وهذا الكلامُ يُضعِّفُ ما نُقِل عن المفسرين بأنَّه أتَّهَمَهُم ، ونسبهُم إلى أنَّهم جواسِيسَ ، ولم يشافههم بذلك الكلام فلا يليقُ به أن يقول لهم : { ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين } ، وأيضاً : بعيدٌ من يوسف مع كونه صديقاً أن يقول لهم : أتنم جواسيسُ وعيون ، مع أنه يعرف براءتهم عن هذه التُّهمةِ ؛ لأن البُهْتَان لا يليق بحال الصديق .