قوله تعالى : { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } قرأ ابن كثير وأهل البصرة : يدفع . وقرأ الآخرون :يدافع بالألف ، يريد : يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ويمنعهم عنهم { إن الله لا يحب كل خوان كفور } يعني : خوان في أمانة الله كفور لنعمته ، قال ابن عباس : خانوا الله فجعلوا معه شريكاً وكفروا نعمه . قال الزجاج : من تقرب إلى الأصنام بذبيحته وذكر عليها اسم غير الله فهو خوان كفور .
وبعد هذا الحديث عن الشعائر والمناسك ، أذن - سبحانه - للمؤمنين بالقتال فى سبيله ، للدفاع عن دينه وشعائره ، ووعدهم - عز وجل - بالنصر متى نصروه وحافظوا على فرائضه . . . فقال - تعالى - : { إِنَّ الله . . . . } .
قال الفخر الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما بين ما يلزم فى الحج ومناسكه وما فيه من منافع الدنيا والآخرة ، وما كان من صد الكفار عنه ، أتبع ذلك ببيان ما يزيل الصد . ويؤمن معه التمكن من الحج فقال - تعالى - { إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا } .
ومفعول " يدافع " محذوف . وجاء التعبير بقوله - تعالى - { يُدَافِعُ } بصيغة المفاعلة ، للمبالغة فى الدفاع والدفع ، أو للدلالة على أن ذلك حاصر للمؤمنين كلما حصل من الكافرين عدوان عليهم .
أى : أن الله - تعالى - بفضله وكرمه يدافع عن المؤمنين أعداءهم وخصومه ، فيرد كيدهم فى نحورهم .
وصح أن يكون { يُدَافِعُ } بمعنى يدفع ، ويؤيده قراءة ابن كثير وأبى عمرو . أى : أن الله - تعالى - يدفع السوء عن عباده المؤمنين الصادقين ، ويجعل العاقبة لهم على أعداءهم .
فالجملة الكريمة بشارة للمؤمنين ، وتقوية لعزائمهم حتى يقبلوا على ما شرعه الله لهم من جهاد أعدائهم ، بثبات لا تردد معه ، وبأمل عظيم فى نصر الله وتأييده .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } تعليل لوعده - سبحانه - للمؤمنين بالدفاع عنهم ، وبجعل العاقبة لهم .
والخوان : هو الشديد الخيانة ، والكفور : هو المبالغ فى كفره وجحوده ، فاللفظان كلاهما صيغة مبالغة .
قال الآلوسى : وصيغة المبالغة فيهما لبيان أن المشركين كذلك ، لا للتقييد المشعر بمحبة الخائن والكافر . . . .
أى : إن الله - تعالى - يدافع عن المؤمنين لمحبته لهم ، ويبغض هؤلاء الكافرين الذين بلغوا فى الخيانة والكفر اقصى الدركات .
وأوثر التعبير بقوله - تعالى - { لاَ يُحِبُّ } على قوله : يبغض أو يكره ، للإشعار بأن المؤمنين هم أحباء الله - تعالى - ، وللتعريض بهؤلاء الكافرين الذين تجاوزوا كل حد فى كراهيتهم لأهل الحق .
تلك الشعائر والعبادات لا بد لها من حماية تدفع عنها الذين يصدون عن سبيل الله وتمنعهم من الاعتداء على حرية العقيدة وحرية العبادة ، وعلى قداسة المعابد وحرمة الشعائر ، وتمكن المؤمنين العابدين العاملين من تحقيق منهاج الحياة القائم على العقيدة ، المتصل بالله ، الكفيل بتحقيق الخير للبشرية في الدنيا والآخرة .
ومن ثم أذن الله للمسلمين بعد الهجرة في قتال المشركين ليدفعوا عن أنفسهم وعن عقيدتهم اعتداء المعتدين ، بعد أن بلغ أقصاه ، وليحققوا لأنفسهم ولغيرهم حرية العقيدة وحرية العبادة في ظل دين الله ، ووعدهم النصر والتمكين ، على شرط أن ينهضوا بتكاليف عقيدتهم التي بينها لهم فيما يلي من الآيات :
( إن الله يدافع عن الذين آمنوا ، إن الله لا يحب كل خوان كفور ، أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا . وإن الله على نصرهم لقدير ، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا : ربنا الله . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا . ولينصرن الله من ينصره ، إن الله لقوي عزيز ، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر . ولله عاقبة الأمور ) . .
إن قوى الشر والضلال تعمل في هذه الأرض ، والمعركة مستمرة بين الخير والشر والهدى والضلال ؛ والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان منذ أن خلق الله الإنسان .
والشر جامح والباطل مسلح . وهو يبطش غير متحرج ، ويضرب غير متورع ؛ ويملك أن يفتن الناس عن الخير إن اهتدوا إليه ، وعن الحق إن تفتحت قلوبهم له . فلا بد للإيمان والخير والحق من قوة تحميها من البطش ، وتقيها من الفتنة وتحرسها من الأشواك والسموم .
ولم يشأ الله أن يترك الإيمان والخير والحق عزلا تكافح قوى الطغيان والشر والباطل ، اعتمادا على قوة الإيمان في النفوس وتغلغل الحق في الفطر ، وعمق الخير في القلوب . فالقوة المادية التي يملكها الباطل قد تزلزل القلوب وتفتن النفوس وتزيغ الفطر . وللصبر حد وللاحتمال أمد ، وللطاقة البشرية مدى تنتهي إليه . والله أعلم بقلوب الناس ونفوسهم . ومن ثم لم يشأ أن يترك المؤمنين للفتنة ، إلا ريثما يستعدون للمقاومة ، ويتهيأون للدفاع ، ويتمكنون من وسائل الجهاد . . وعندئذ أذن لهم في القتال لرد العدوان .
وقبل أن يأذن لهم بالانطلاق إلى المعركة آذنهم أنه هو سيتولى الدفاع عنهم فهم في حمايته : ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا ) . .
وأنه يكره أعداءهم لكفرهم وخيانتهم فهم مخذولون حتما : ( إن الله لا يحب كل خوان كفور ) . .
يخبر تعالى أنه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفجار ، ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم ، كما قال تعالى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] وقال : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } [ الطلاق : 3 ] .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } أي : لا يحب من عباده من اتصف بهذا ، وهو الخيانة في العهود والمواثيق ، لا يفي بما قال . والكفر{[20299]} : الجحد للنعم ، فلا يعترف بها .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ } .
يقول تعالى ذكره : إن الله يدفع غائلة المشركين عن الذين آمنوا بالله وبرسوله ، إن الله لا يحبّ كلّ خوان يخون الله فيخالف أمره ونهيه ويعصيه ويطيع الشيطان كَفُورٍ يقول : جَحود لنعمه عنده ، لا يعرف لمنعمها حقه فيشكره عليها . وقيل : إنه عني بذلك دفع الله كفار قريش عمن كان بين أظهرهم من المؤمنين قبل هجرتهم .
روي أن هذه الآية نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر فنزلت هذه الآية إلى قوله { كفور } ، ووكد فيها بالمدافعة ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر ، وقرأ نافع والحسن وأبو جعفر «يدافع » «ولولا دفاع » ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «يدفع » «ولولا دفع » ، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «يدافع » «ولولا دفع » قال أبو علي أجريت «دافع » في هذه القراءة مجرى «دفع » كعاقبت اللص وطابقت النعل فجاء المصدر دفعاً ، قال أبو الحسن والأخفش : أكثر الكلام أن الله «يدفع » ويقولون دافع الله عنك إلا أن دفع أكثر .
قال القاضي أبو محمد : فحسن في الآية { يدفع } لأنه قد عن للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم فتجيء معارضته ودفعه مدافعة عنهم ، وحكى الزهراوي أن دفاعاً مصدر دفع كحسبت حساباً .