قوله عز وجل{ وهو الذي ينزل الغيث } المطر ، { من بعد ما قنطوا } يعني : من بعد ما يئس الناس منه ، وذلك أدعى لهم إلى الشكر ، قال مقاتل : حبس الله المطر عن أهل مكة سبع سنين حتى قنطوا ، ثم أنزل الله المطر فذكرهم الله نعمته ، { وينشر رحمته } يبسط مطره ، كما قال : { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } ( الأعراف-57 ) { وهو الوالي } لأهل طاعته ، { الحميد } عند خلقه .
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ألوانا من نعمه على عباده ، وكلها تدل على وحدانيته وكمال قدرته فقال - تعالى - : { وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } .
أى : وهو - سبحانه - الذى ينزل المطر على عباده ، من بعد أن انتظروه فترة طويلة حتى ظهرت على ملامحهم علامات اليأس ، وبدأت على وجوههم أمارات القنوط .
وقوله - تعالى - : { وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } معطوف على { يُنَزِّلُ } . أى : ينزل الأمطار بعد يأس الناس من نزولها ، وينشر رحمته عليهم عن طريق ما ينتج عن هذه الأمطار من خيرات وبركات وأرزاق .
{ وَهُوَ } - سبحانه - { الولي } أى : الذى يتولى عباده برحمته وإحسانه { الحميد } أى : المحمود على فعله ، حيث أنزل على عباده الغيث بعد أن ينسوا منه ، والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها تصور جانبا من فضل الله على عباده بطريقة محسوسة ، فالتعبير بالغيب يشعر بالغوث والنجدة بعد أن فقد الناس الأمل فى ذلك ، والتعبير بالقنوط .
يشعر بأن آثار الضيق قد ظهرت على وجوههم ، والتعبير بقوله - تعالى - { وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } ، يشعر بانتشار الرجاء والفرح والانشراح على الوجوه بعد أن حل بها القنوط .
والتعبير بقوله - تعالى - : { وَهُوَ الولي الحميد } يشعر بقرب الله - تعالى - من عباده ، وبوجوب شركه على ما أعطى بعد المنع ، وعلى ما فرج بعد الضيق .
( وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ، وينشر رحمته ، وهو الولي الحميد ) . .
وهذه لمسة أخرى كذلك تذكرهم بجانب من فضل الله على عباده في الأرض . وقد غاب عنهم الغيث ، وانقطع عنهم المطر ، ووقفوا عاجزين عن سبب الحياة الأول . . الماء . . وأدركهم اليأس والقنوط . ثم ينزل الله الغيث ، ويسعفهم بالمطر ، وينشر رحمته ، فتحيا الأرض ، ويخضر اليابس ، وينبت البذر ، ويترعرع النبات ، ويلطف الجو ، وتنطلق الحياة ، ويدب النشاط ، وتنفرج الأسارير ، وتتفتح القلوب ، وينبض الأمل ، ويفيض الرجاء . . وما بين القنوط والرحمة إلا لحظات . تتفتح فيها أبواب الرحمة ، فتتفتح أبواب السماء بالماء . . ( وهو الولي الحميد ) . . وهو النصير والكافل المحمود الذات والصفات . .
واللفظ القرآني المختار للمطر في هذه المناسبة . . ( الغيث ) . . يلقي ظل الغوث والنجدة ، وتلبية المضطر في الضيق والكربة . كما أن تعبيره عن آثار الغيث . . ( وينشر رحمته ) . . يلقي ظلال النداوة والخضرة والرجاء والفرح ، التي تنشأ فعلا عن تفتح النبات في الأرض وارتقاب الثمار . وما من مشهد يريح الحس والأعصاب ويندّي القلب المشاعر ، كمشهد الغيث بعد الجفاف . وما من مشهد ينفض هموم القلب وتعب النفس كمشهد الأرض تتفتح بالنبت بعد الغيث ، وتنتشي بالخضرة بعد الموات .
وقوله : { وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا } أي : من بعد إياس الناس من نزول المطر ، ينزله عليهم في وقت حاجتهم وفقرهم إليه ، كقوله : { وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنزلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } [ الروم : 49 ] .
وقوله : { وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ } أي : يعم بها الوجود على أهل ذلك القُطْر وتلك الناحية .
قال قتادة : ذكر لنا أن رجلا قال لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين ، قُحط المطر وقنط الناس ؟ فقال عمر ، رضي الله عنه : مطرتم ، ثم قرأ : { وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ } {[25881]} .
{ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } أي : هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم ، وهو المحمود العاقبة في جميع ما يقدره ويفعله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الّذِي يُنَزّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيّ الْحَمِيدُ } .
يقول تعالى ذكره : والله الذي ينزل المطر من السماء فيغيثكم به أيها الناس مِنْ بَعْدِما قَنَطُوا يقول : من بعد ما يئس من نزوله ومجيئه وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ يقول : وينشر في خلقه رحمته ، ويعني بالرحمة : الغيث الذي ينزله من السماء . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : أجدبت الأرض ، وقنط الناس ، قال : مطروا إذن .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا قال : يئسوا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذُكر لنا أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال : يا أمير المؤمنين قحط المطر ، وقنط الناس قال : مطرتم وَهُوَ الّذِي يُنَزّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِما قَنَطُوا ، وَيَنْشُرَ رَحْمَتَهُ .
وقوله : وَهُوَ الوَلِيّ الحَميدُ يقول : وهو الذي يليكم بإحسانه وفضله ، الحميد بأياديه عندكم ، ونعمه عليكم في خلقه .
هذه تعديد نعمة الله تعالى الدالة على وحدانيته ، وأنه الإله الذي يستحق أن يعبد دون سواه من الأنداد .
وقرأ «يُنَزِّل » مثقلة جمهور القراء ، وقرأها «يُنْزِل » مخففة ابن وثاب والأعمش ، ورويت عن أبي عمرو ، ورجحها أبو حاتم ، وقرأ جمهور الناس : «قنَطوا » بفتح النون ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش : بكسر النون ، وقد تقدم ذكرها وهما لغتان : قنَط ، وقنِط ، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيل له : أجدبت الأرض وقنط الناس ، فقال : مطروا إذاً ، بمعنى أن الفرج عند الشدة ، واختلف المتأولون في قوله تعالى : { وينشر رحمته } فقالت فرقة : أراد بالرحمة المطر ، وعدد النعمة بعينها بلفظتين : الثاني منهما يؤكد الأول . وقالت فرقة : الرحمة في هذا الموضع الشمس ، فذلك تعديد نعمة غير الأولى ، وذلك أن المطر إذا ألم بعد القنط حسن موقعه ، فإذا دام سئم ، فتجيء الشمس بعده عظيمة الموضع .
وقوله تعالى : { وهو الولي الحميد } أي من هذه أفعاله فهو الذي ينفع إذا والى وتحمد أفعاله ونعمه ، لا كالذي لا يضر ولا ينفع من أوثانكم .