ثم بين - سبحانه - موقف فرعون وقومه من هذه المعجزات الدالة على صدق موسى فقال :
{ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ . وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً . فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين } .
وقوله { مُبْصِرَةً } من الإبصار والظهور . وهو اسم فاعل بمعنى اسم المفعول ، للإشعار بشدة وضوحها وإنارتها ، حتى لكأنها تبصر نفسها لو كانت مما يبصر ، كما يقال : ماء دافق بمعنى مدفوق .
وقوله : { وَجَحَدُواْ بِهَا } من الجحود . وهو إنكار الحق مع العلم بأنه حق ، يقال : جحد فلان حق غيره ، إذا أنكره مع علمه به .
وقوله : { واستيقنتهآ } من الإيقان وهو الاعتقاد الجازم الذى لا يطرأ عليه شك وجىء بالسين لزيادة التأكيد .
والمعنى : وذهب موسى - عليه السلام - ومعه المعجزات الدالة على صدقه ، إلى فرعون وقومه ليدعوهم إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - وحده ، فلما جاءهم موسى بتلك المعجزات المضيئة الواضحة للدلالة على صدقه ، قالوا على سبيل العناد والغرور : هذا الذى نراه منك يا موسى ، سحر بين وظاهر فى كونه سحرا .
وجحد فرعون وقومه هذه المعجزات التى جاء بها موسى من عند ربه - تعالى - ، مع أن أنفسهم قد علمت علماً لا شك معه أنها معجزات وليست سحراً ، ولكنهم خالفوا علمهم ويقينهم { ظُلْماً } للآيات حيث أنزلوها عن منزلتها الرفيعة وسموها سحراً { وَعُلُوّاً } أى : ترفعا واستكباراً عن الإيمان بها .
{ فانظر } أيها العاقل { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين } ؟ لقد كانت عاقبتهم أن أغرقهم الله جميعاً ، بسبب كفرهم وظلمهم وجحودهم وفسادهم فى الأرض .
وفى التعبير بقوله : { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا . . } إشعار بأن هذه الآيات الدالة على صدق موسى - عليه السلام - قد وصلت إليهم بدون أن يتعبوا أنفسهم فى الذهاب إليها ، فهى جاءتهم إلى بيوتهم لكى تهديهم إلى الصراط المستقيم ، ولكنهم قابلوا ذلك بالكفر والجحود .
وأسند - سبحانه - المجىء إلى الآيات وأضافها إلى ذاته - تعالى - للإشارة إلى أنها خارجة عن أن تكون من صنع موسى ، وإنما هى من صنع الله - تعالى - ومن فعله ، و موسى ما هو إلا منفذ لما أمره ربه ، ومؤيد لما منحه إياه من معجزات دالة على صدقه فيما يبلغه عنه .
وقوله : { ظُلْماً وَعُلُوّاً } منصوبان على أنهما مفعولان لأجله ، أو على أنهما حالان من فاعل جحدوا .
أى : جحدوا الآيات مع تيقنهم أنها من عند الله ، من أجل الظلم لها والتعالى على من جاء بها ، أو : جحدوا بها حالة كونهم ظالمين لها ، ومستكبرين عنها .
وفى قوله - سبحانه - : { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين } تسلية عظمى للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من الكافرين .
فهم كانوا كفرعون وقومه فى جحود الحق الذى جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم مع يقينهم بأنه حق ، ولكن حال بينهم وبين الدخول أسباب متعددة ، على رأسها العناد ، والحسد ، والعكوف على ما كان عليه الآباء ، والكراهية لتغيير الأوضاع التى تهواها نفوسهم ، وزينتها لهم شهواتهم .
وقد استيقنت نفوسهم أنها الحق الذي لا شبهة فيه : ( واستيقنتها أنفسهم ) . قالوا جحودا ومكابرة ، لأنهم لا يريدون الإيمان ، ولا يطلبون البرهان . استعلاء على الحق وظلما له ولأنفسهم بهذا الاستعلاء الذميم .
وكذلك كان كبراء قريش يستقبلون القرآن ، ويستيقنون أنه الحق ، ولكنهم يجحدونه ، ويجحدون دعوة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إياهم إلى الله الواحد . ذلك أنهم كانوا يريدون الإبقاء على ديانتهم وعقائدهم ، لما وراءها من أوضاع تسندهم ، ومغانم تتوافد عليهم . وهي تقوم على تلك العقائد الباطلة ، التي يحسون خطر الدعوة الإسلاميه عليها ، ويحسونها تتزلزل تحت أقدامهم ، وترتج في ضمائرهم . ومطارق الحق المبين تدمغ الباطل الواهي المريب !
وكذلك الحق لا يجحده الجاحدون لأنهم لا يعرفونه . بل لأنهم يعرفونه ! يجحدونه وقد استيقنته نفوسهم ، لأنهم يحسون الخطر فيه على وجودهم ، أو الخطر على أوضاعهم ، أو الخطر على مصالحهم ومغانمهم . فيقفون في وجهه مكابرين ، وهو اضح مبين .
( فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) . .
وعاقبة فرعون وقومه معروفة ، كشف عنها القرآن في مواضع أخرى . إنما يشير إليها هنا هذه الإشارة ، لعلها توقظ الغافلين من الجاحدين بالحق المكابرين فيه ، إلى عاقبة فرعون وقومه قبل أن يأخذهم ما أخذ المفسدين .
{ وَجَحَدُوا بِهَا } أي : في ظاهر أمرهم ، { وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ } أي : علموا في أنفسهم أنها حق{[21976]} من عند الله ، ولكن جَحَدوها وعاندوها وكابروها ، { ظُلْمًا وَعُلُوًّا } أي : ظلما من أنفسهم ، سَجِيَّة ملعونة ، { وَعُلُوًّا } أي : استكبارًا عن اتباع الحق ؛ ولهذا قال : { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } أي : انظر يا محمد كيف كان عاقبة كُفرهم{[21977]} ، في إهلاك الله إياهم ، وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة .
وفحوى الخطاب يقول : احذروا أيها المكذبون بمحمد ، الجاحدون لما جاء به من ربه ، أن يصيبكم ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى ؛ فإن محمدًا ، صلوات الله وسلامه عليه{[21978]} أشرف وأعظم من موسى ، وبرهانه أدل وأقوى من برهان موسى ، بما آتاه الله من الدلائل المقترنة بوجوده في نفسه وشمائله ، وما سبقه من البشارات من الأنبياء به ، وأخذ المواثيق له ، عليه{[21979]} من ربه أفضل الصلاة والسلام .
وقوله : وَجَحَدُوا بِها يقول : وكذّبوا بالاَيات التسع أن تكون من عند الله ، كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج وَجَحَدُوا بِها قال : الجحود : التكذيب بها .
وقوله : وَاسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهُمْ يقول : وأيقنتها قلوبهم ، وعلموا يقينا أنها من عند الله ، فعاندوا بعد تبينهم الحقّ ، ومعرفتهم به ، كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس وَاسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهُمْ قال : يقينهم في قلوبهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله الله : وَاسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهُمْ ظُلْما وَعُلُوّا قال : استيقنوا أن الاَيات من الله حقّ ، فلم جحدوا بها ؟ قال : ظلما وعلوّا .
وقوله : ظُلْما وَعُلُوّا يعني بالظلم : الاعتداء ، والعلوّ : الكبر ، كأنه قيل : اعتداء وتكبرا وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، في قوله ظُلْما وَعُلُوّا قال : تعظما واستكبارا ، ومعنى ذلك : وجحدوا بالاَيات التسع ظلما وعلوّا ، واستيقنتها أنفسهم أنها من عند الله ، فعاندوا الحقّ بعد وضوحه لهم ، فهو من المؤخر الذي معناه التقديم .
وقوله : فانْظُرْ كَيْف كانَ عاقِبَةُ المُفْسِدِينَ . يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فانظر يا محمد بعين قلبك كيف كان عاقبة تكذيب هؤلاء الذين جحدوا آياتنا حين جاءتهم مبصرة ، وماذا حلّ بهم من إفسادهم في الأرض ومعصيتهم فيها ربهم ، وأعقبهم ما فعلوا ، فإن ذلك أخرجهم من جنات وعيون ، وزروع ومقام كريم ، إلى هلاك في العاجل بالغرق ، وفي الاَجل إلى عذاب دائم ، لا يفتر عنهم ، وهم فيه مبلسون . يقول : وكذلك يا محمد سنتي في الذين كذّبوا بما جئتهم به من الاَيات على حقيقة ما تدعوهم إليه من الحقّ من قومك .
و { استيْقنتها } بمعنى أيقنت بها ، فحُذف حرف الجر وعدي الفعل إلى المجرور على التوسع أو على نزع الخافض ، أي تحققتها عقولُهم ، والسين والتاء للمبالغة . والظلم في تكذيبهم الرسول لأنهم ألصقوا به ما ليس بحق فظلموه حقه .
والعلو : الكبر ويحسن أن تكون جملة : { واستيقنتها } حالية ، فقوله : { ظلماً وعلواً } نشر على ترتيب اللفّ . فالظلم في الجحد بها والعلوّ في كونهم موقنين بها .
وانتصب { ظلماً وعلوّاً } على الحال من ضمير { جحدوا } وجعل ما هو معلوم من حالهم فيما لحق بهم من العذاب بمنزلة الشيء المشاهد للسامعين فأمر بالنظر إليه بقوله : { فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } . والخطاب لغير معين . ويجوز أن يكون الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم تسلية له بما حلّ بالمكذبين بالرسل قبله لأن في ذلك تعريضاً بتهديد المشركين بمثل تلك العاقبة .
و { كيف } يجوز أن يكون مجرّداً عن معنى الاستفهام منصوباً على المفعولية ، ويجوز أن يكون استفهاماً معلِّقاً فعلَ النظر عن العمل ، والاستفهام حينئذ للتعجيب .