قوله تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً } أي : كما بعثنا فيكم ، { أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } ، وهو كل معبود من دون الله ، { فمنهم من هدى الله } أي : هداه الله إلى دينه ، { ومنهم من حقت عليه الضلالة } أي : وجبت بالقضاء السابق حتى مات على كفره ، { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } أي : مآل أمرهم ، وهو خراب منازلهم بالعذاب والهلاك .
ثم بين - سبحانه - أن من رحمته بعباده ، أن أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت . . } .
والطاغوت : اسم لكل معبود من دون الله - تعالى - ، كالأصنام والأوثان وغير ذلك من المعبودات الباطلة ، مأخوذ من طغا يطغى طغوا . . إذا جاوز الحد فى الضلال .
أى : ولقد اقتضت حكمتنا ورحمتنا أن نبعث فى كل أمة ، من الأمم السالفة { رسولا } من رسلنا الكرام ، ليرشدوا الناس إلى الحق والخير ، وليقولوا { أَنِ اعبدوا الله } - تعالى - وحده ، { واجتنبوا } عبادة { الطاغوت } الذى يضل ولا يهدى .
وأكد - سبحانه - الجملة باللام وقد ، للرد على ما زعمه المشركون من أن الله - تعالى - لم ينكر عليهم عبادتهم لغيره ، وأنه - سبحانه - راض لتحريمهم لما أحله . حيث بين لهم - عز وجل - أنه قد أرسل الرسل للدعوة إلى عبادته وحده ، ولتجنب عبادة أحد سواه . و " أن " فى قوله { أن اعبدوا . . } تفسيرية ، لأن البعث يتضمن معنى القول ، إذ هو بعث للتبليغ .
ثم بين - سبحانه - موقف هؤلاء الأقوام من رسلهم فقال - تعالى - : { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة . . } .
أى : بعثنا فى كل أمة من الأمم السابقة رسولا لهداية أبنائها فمن هؤلاء الأبناء من هداهم الله - تعالى - إلى الحق وإلى الصراط المستقيم . بأن وفقهم إليه ، لانشراح صدورهم له ، ومنهم من ثبتت وحقت عليه الضلالة ، لاستحبابه العمى على الهدى .
وأسند - سبحانه - هداية بعض أفراد هذه الأمم إليه ، مع أنه أمر جميعهم - على ألسنة رسله - بالدخول فى طريق الهدى ، للرد على المشركين الذين أحالوا شركهم وفسوقهم على مشيئة الله ، إذ أن الله - تعالى - قد بين للناس جميعا طرق الخير وطرق الشر ، فمنهم من استجاب للأولى ، ومنهم من انحدر إلى الثانية ، وكلاهما لم يقسره الله - تعالى - قسرا على الهدى أو الضلال .
فاهتداء المهتدين إنما هو بسبب اختيارهم لذلك ، واتباعهم الرسل ، وضلال الضالين إنما هو بسبب استحواذ الشيطان عليهم .
وعبر - سبحانه - فى جانب الضالين بقوله : { وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة } للإِشارة إلى أنهم لم يتسجيبوا لما أرشدهم - سبحانه - إليه ، بل ظلوا ثابتين مصممين على البقاء فى طريق الضلالة ، { فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } وقوله - سبحانه - : { فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } . تحريض لهم على التأمل فى آثار المكذبين ، لعلهم عن طريق هذا التأمل والتدبر يثوبون إلى رشدهم ، ويعودون إلى صوابهم ، ويدركون سنة من سنن الله فى خلقه ، وهى أن العاقبة الطيبة للمتقين ، والعاقبة السيئة للكافرين .
والفاء فى قوله { فسيروا . . } للتفريع ، وقد جئ بها للإِشعار بوجوب المبادرة إلى التأمل والاعتبار .
أى : إن كنتم فى شك مما أخبرناكم به ، فسارعوا إلى السير فى الأرض ، لتروا بأعينكم آثار المجرمين ، الذين كذبوا الرسل وأسندوا شركهم إلى مشيئة الله . لقد نزل بهؤلاء المكذبين عذاب الله ، فدمرهم تدميرا
{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِالَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }
فالله سبحانه لا يريد لعباده الشرك ، ولا يرضى لهم أن يحرموا ما أحله لهم من الطيبات . وإرادته هذه ظاهرة منصوص عليها في شرائعه ، على ألسنة الرسل الذين كلفوا التبليغ وحده فقاموا به وأدوه : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) فهذا أمره وهذه إرادته لعباده . والله - تعالى - لا يأمر الناس بأمر يعلم أنه منعهم خلقة من القدرة عليه ، أو دفعهم قسرا إلى مخالفته . وآية عدم رضاه عن مخالفة أمره هذا ما أخذ به المكذبين ( فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) .
إنما شاءت إرادة الخالق الحكيم أن يخلق البشر باستعداد للهدى وللضلال ، وأن يدع مشيئتهم حرة في اختيار أي الطريقين ؛ ومنحهم بعد ذلك العقل يرجحون به أحد الاتجاهين ، بعد ما بث في الكون من آيات الهدى ما يلمس العين والأذن والحس والقلب والعقل حيثما اتجهت آناء الليل وأطراف النهار . . ثم شاءت رحمة الله بعباده بعد هذا كله ألا يدعهم لهذا العقل وحده ، فوضع لهذا العقل ميزانا ثابتا في شرائعه التي جاءت بها رسله ، يثوب إليه العقل كلما غم عليه الأمر ، ليتأكد من صواب تقديره أو خطئه عن طريق الميزان الثابت الذي لا تعصف به الأهواء . ولم يجعل الرسل جبارين يلوون أعناق الناس إلى الإيمان ، ولكن مبلغين ليس عليهم إلا البلاغ ، يأمرون بعبادة الله وحده واجتناب كل ما عداه من وثنية وهوى وشهوة وسلطان :
( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) . .
ففريق استجاب : ( فمنهم من هدى الله ) وفريق شرد في طريق الضلال ( ومنهم من حقت عليه الضلالة ) وهذا الفريق وذلك كلاهما لم يخرج على مشيئة الله ، وكلاهما لم يقسره الله قسرا على هدى أو ضلال ، إنما سلك طريقه الذي شاءت إرادة الله أن تجعل إرادته حرة في سلوكه ، بعد ما زودته بمعالم الطريق في نفسه وفي الآفاق .
كذلك ينفي القرآن الكريم بهذا النص وهم الإجبار الذي لوح به المشركون ، والذي يستند إليه كثير من العصاة والمنحرفين . والعقيدة الإسلامية عقيدة ناصعة واضحة في هذه النقطة . فالله يأمر عباده بالخير وينهاهم عن الشر ، ويعاقب المذنبين أحيانا في الدنيا عقوبات ظاهرة يتضح فيها غضبه عليهم . فلا مجال بعد هذا لأن يقال : إن إرادة الله تتدخل لترغمهم على الانحراف ثم يعاقبهم عليه الله ! إنما هم متروكون لاختيار طريقهم وهذه هي إرادة الله . وكل ما يصدر عنهم من خير أو شر . من هدى ومن ضلال . يتم وفق مشيئة الله على هذا المعنى الذي فصلناه .
وبعث في كل أمة رسولا أي : في كل قرن من الناس وطائفة رسولا وكلهم يدعو{[16429]} إلى عبادة الله ، وينهى{[16430]} عن عبادة ما سواه : { أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك ، منذ حدث الشرك في بني آدم ، في قوم نوح الذين أرسل إليهم نوح ، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب ، وكلهم كما قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] ، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } فمشيئته تعالى الشرعية منتفية{[16431]} ؛ لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله ، وأما مشيئته الكونية ، وهي{[16432]} تمكينهم من ذلك قدرا ، فلا حجة لهم فيها{[16433]} لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة ، وهو لا يرضى لعباده الكفر ، وله في ذلك حجة بالغة وحكمة قاطعة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمّةٍ رّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطّاغُوتَ فَمِنْهُم مّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُمْ مّنْ حَقّتْ عَلَيْهِ الضّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ولقد بعثنا أيها الناس في كلّ أمة سلفت قبلكم رسولاً كما بعثنا فيكم بأن اعبدوا الله وحده لا شريك له وأفردوا له الطاعة وأخلصوا له العبادة ، وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ يقول : وابعدوا من الشيطان ، واحذروا أن يغويكم ويصدّكم عن سبيل الله فتضلوا . فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللّهُ يقول : فممن بعثنا فيهم رسلنا من هدى الله ، فوفّقه لتصديق رسله والقبول منها والإيمان بالله والعمل بطاعته ، ففاز وأفلح ونجا من عذاب الله وَمِنْهُمْ مَنْ حَقّتْ عَلَيْهِ الضّلالَةُ يقول : وممن بعثنا رسلنا إليه من الأمم آخرون حقّت عليهم الضلالة ، فجاروا عن قصد السبيل ، فكفروا بالله وكذّبوا رسله واتبعوا الطاغوت ، فأهلكهم الله بعقابه وأنزل عليهم بأسه الذي لا يردّ عن القوم المجرمين . فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذّبِينَ يقول تعالى ذكره لمشركي قريش : إن كنتم أيها الناس غير مصدّقي رسولنا فيما يخبركم به عن هؤلاء الأمم الذين حلّ بهم ما حلّ من بأسنا بكفرهم بالله وتكذيبهم رسوله ، فسيروا في الأرض التي كانوا يسكنونها والبلاد التي كانوا يعمرونها فانظروا إلى آثار الله فيهم وآثار سخطه النازل بهم ، كيف أعقبهم تكذيبهم رسل الله ما أعقبهم ، فإنكم ترون حقيقة ذلك وتعلمون به صحة الخبر الذي يخبركم به محمد صلى الله عليه وسلم .
ثم بين أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها سببا لهدى من أراد اهتداءه وزيادة لضلال من أراد ضلاله ، كالغذاء الصالح فإنه ينفع المزاج السوي ويقويه ويضر المنحرف ويفنيه بقوله تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } يأمر بعبادة الله تعالى واجتناب الطاغوت . { فمنهم من هدى الله } وفقهم للإيمان بإرشادهم . { ومنهم من حقّت عليه الضلالة } إذ لم يوفقهم ولم يرد هداهم ، وفيه تنبيه على فساد الشبهة الثانية لما فيه من الدلالة على أن تحقق الضلال وثباته بفعل اله تعالى وإرادته من حيث أنه قسم من هدى الله ، وقد صرح به في الآية الأخرى . { فسيروا في الأرض } يا معشر قريش . { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } من عاد وثمود وغيرهم لعلكم تعتبرون .
لما أشار قوله تعالى : { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } [ النحل : 35 ] إلى إقامة الحجة حسبما ذكرناه بين ذلك في هذه الآية ، أي إنه بعث الرسل آمراً بعبادته وتجنب عبادة غيره ، و { الطاغوت } في اللغة كل ما عُبد من دون الله من آدمي راض بذلك ، أو حجر أو خشب ، ثم أخبر أن منهم من اعتبر وهداه الله ونظر ببصيرته ، ومنهم أيضاً من أعرض وكفر { فحقت عليه الضلالة } ، وهي مؤدية إلى النار حتماً ، ومنه من أدته إلى عذاب الله في الدنيا ، ثم أحالهم في علم ذلك على الطلب في الأرض واستقراء الأمم والوقوف على عواقب الكافرين المكذبين .
عطف على جملة { كذلك فعل الذين من قبلهم } [ سورة النحل : 35 ] . وهو تكملة لإبطال شبهة المشركين إبطالاً بطريقة التفصيل بعد الإجمال لزيادة تقرير الحجّة ، فقوله تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة } بيان لمضمون جملة { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } [ النحل : 35 ] .
وجملة فمنهم من هدى الله إلى آخرها بيان لمضمون جملة { كذلك فعل الذين من قبلهم } .
والمعنى : أن الله بيّن للأمم على ألسنة الرسل عليهم السلام أنّه يأمرهم بعبادته واجتناب عبادة الأصنام ؛ فمن كل أمّة أقوام هداهم الله فصدّقوا وآمنوا ، ومنهم أقوام تمكّنت منهم الضلالة فهلكوا . ومن سار في الأرض رأى دلائل استئصالهم .
و { أن } تفسيرية لجملة { بعثنا } لأنّ البعث يتضمّن معنى القول ، إذ هو بعث للتبليغ .
و { الطاغوت } : جنس ما يعبد من دون الله من الأصنام . وقد يذكرونه بصيغة الجمع ، فيقال : الطواغيت ، وهي الأصنام . وتقدّم عند قوله تعالى : { يؤمنون بالجبت والطاغوت } في سورة النساء ( 51 ) .
وأسندت هداية بعضهم إلى الله مع أنه أمر جميعهم بالهدى تنبيهاً للمشركين على إزالة شبهتهم في قولهم : { لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء } [ سورة النحل : 35 ] بأن الله بيّن لهم الهُدى ، فاهتداء المهتدين بسبب بيانه ، فهو الهادي لهم .
والتّعبير في جانب الضلالة بلفظ حقّت عليهم دون إسناد الإضلال إلى الله إشارة إلى أن الله لما نهاهم عن الضلالة فقد كان تصميمهم عليها إبقاء لضلالتهم السابقة فحقّت عليهم الضلالة ، أي ثبتت ولم ترتفع .
وفي ذلك إيماء إلى أن بقاء الضلالة من كسب أنفسهم ؛ ولكن ورد في آيات أخرى أن الله يضلّ الضالّين ، كما في قوله : { ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقاً حرجاً } [ سورة الأنعام : 125 ] ، وقوله عقب هذا { فإن الله لا يهدي من يضلّ } [ سورة النحل : 37 ] على قراءة الجمهور ، ليحصل من مجموع ذلك علم بأن الله كَوّنَ أسباباً عديدة بعضها جاءٍ من توالد العقول والأمزجة واقتباس بعضها من بعض ، وبعضها تابع للدعوات الضالّة بحيث تهيّأت من اجتماع أمور شتّى لا يحصيها إلا الله ، أسباب تامّة تحول بين الضالّ وبين الهدى . فلا جرم كانت تلك الأسباب هي سبب حقّ الضلالة عليهم ، فباعتبار الأسباب المباشرة كان ضلالهم من حالات أنفسهم ، وباعتبار الأسباب العالية المتوالدة كان ضلالهم من لدن خالق تلك الأسباب وخالق نواميسها في متقادم العصور . فافْهَم .
ثم فرّع على ذلك الأمَر بالسير في الأرض لينظروا آثار الأمم فيروا منها آثار استئصال مخالف لأحوال الفناء المعتاد ، ولذلك كان الاستدلال بها متوقّفاً على السير في الأرض ، ولو كان المراد مطلق الفناء لأمرهم بمشاهدة المقابر وذكر السّلف الأوائل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله}، يعني: أن وحدوا الله، {واجتنبوا الطاغوت}، يعني: عبادة الأوثان، {فمنهم من هدى الله} إلى دينه، {ومنهم من حقت عليه}، يعني: وجبت {الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}، رسلهم بالعذاب الذين حقت عليهم الضلالة في الدنيا، يخوف كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية، ليحذروا عقوبته، ولا يكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولقد بعثنا أيها الناس في كلّ أمة سلفت قبلكم رسولاً كما بعثنا فيكم بأن اعبدوا الله وحده لا شريك له وأفردوا له الطاعة وأخلصوا له العبادة،
"وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ" يقول: وابعدوا من الشيطان، واحذروا أن يغويكم ويصدّكم عن سبيل الله فتضلوا.
"فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللّهُ" يقول: فممن بعثنا فيهم رسلنا من هدى الله، فوفّقه لتصديق رسله والقبول منها والإيمان بالله والعمل بطاعته، ففاز وأفلح ونجا من عذاب الله.
"وَمِنْهُمْ مَنْ حَقّتْ عَلَيْهِ الضّلالَةُ" يقول: وممن بعثنا رسلنا إليه من الأمم آخرون حقّت عليهم الضلالة، فجاروا عن قصد السبيل، فكفروا بالله وكذّبوا رسله واتبعوا الطاغوت، فأهلكهم الله بعقابه وأنزل عليهم بأسه الذي لا يردّ عن القوم المجرمين.
"فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذّبِينَ" يقول تعالى ذكره لمشركي قريش: إن كنتم أيها الناس غير مصدّقي رسولنا فيما يخبركم به عن هؤلاء الأمم الذين حلّ بهم ما حلّ من بأسنا بكفرهم بالله وتكذيبهم رسوله، فسيروا في الأرض التي كانوا يسكنونها والبلاد التي كانوا يعمرونها فانظروا إلى آثار الله فيهم وآثار سخطه النازل بهم، كيف أعقبهم تكذيبهم رسل الله ما أعقبهم، فإنكم ترون حقيقة ذلك وتعلمون به صحة الخبر الذي يخبركم به محمد صلى الله عليه وسلم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولقد بعثنا في كل أمة رسولا} يخبر رسوله أنك لست بأول مبعوث إلى أمتك، ولكن قد بعث إلى كل أمة رسولا، وهو كقوله: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} (فاطر: 24) يصبره على ما يصيبه منهم من المكروه والأذى، أي لست أنت بأول من يصيبه ذلك، بل كان رسل قبلك أصابهم من أمتهم ما يصيبك من أمتك. وقوله تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسول أن اعبدوا الله} هو على الإضمار، كأنه قال: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولا} وقلنا لهم: قولوا: {أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} على ذلك كان بعث الرسل جميعا إلى قومهم بالدعاء إلى توحيد الله وجعل العبادة له والنهي عن عبادة الأوثان دونه كقوله: {فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} (الأعراف: 59) ويكون قوله: {واجتنبوا الطاغوت} كقوله {ما لكم من إله غيره} واحدا. والطاغوت: قال بعضهم: كل من عبد دون الله فهو طاغوت. وقال الحسن: هو الشيطان؛ أضيفت العبادة إليه بقوله: {يا أبت لا تعبد الشيطان} (مريم: 44) لأن من يعبد دونه يعبد بأمره، فأضيفت لذلك إليه، وقد ذكرنا هذا أيضا في ما تقدم.
{فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة} هذا يدل على أنه لم يرد بالهدى البيان على ما قال بعض الناس إذ قد سبق منه البيان لكل أحد، وما ذكر أيضا: {ومنهم من حقت عليه الضلالة}... الهدى منه في هذا الموضع، ليس هو البيان، هو ما يكرم به عبده ويوفقه لديه. وقوله: {فمنهم من هدى الله} لاختياره الهدى {ومنهم من حقت عليه الضلالة} أي لزمته الضلالة لاختياره إياها.
{فسيروا في الأرض} قال الحسن: قوله: {فسيروا} ليس على الأمر، ولكن كأنه قال: لو سرتم في الأرض لرأيتم {كيف كان عاقبة المكذبين} بالتكذيب. وقال بعضهم: {فسيروا} كأنه على الحجاج عليهم: إن سرتم في الأرض فإنكم ترون آثار من كان قبلكم، ويشبه أن يكون ليس على السير نفسه، ولكن على التأويل والنظر في آثار أولئك وأمورهم أنه بم نزل بهم ما نزل؟ والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...ثم أخبر عن المبعوث إليهم بأن منهم من لطف الله لهم بما علم أنه يؤمن عنده، فآمن عنده، فسمى ذلك اللطف هداية، ولم يرد نصب الأدلة على الحق لأنه تعالى سوى في ذلك بين المؤمن والكافر، كما قال "فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى"، ويحتمل أن يكون المراد فمنهم من هداه الله إلى الجنة بإيمانه. وقوله: "ومنهم من حقت عليه الضلالة "قيل فيه قولان:
أحدهما: لأنهم ضلوا عن طريق الحق وكفروا بالله، وهو قول الحسن.
الثاني: حقت عليهم الضلالة عن طريق الجنة بما ارتكبوه من الكفر.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لم يُخْلِ زماناً من الشرع توضيحاً لحجته، ولكن فرَّقهم في سابِق حُكْمِه؛ ففريقاً هداهم، وفريقاً حَجَبَهم وأعماهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ولقد أمدّ إبطال قدر السوء ومشيئة الشر بأنه ما من أمة إلا وقد بعث فيهم رسولاً يأمرهم بالخير الذي هو الإيمان وعبادة الله، وباجتناب الشر الذي هو طاعة الطاغوت؛ {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله} أي لطف به لأنه عرفه من أهل اللطف، {وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة} أي ثبت عليه الخذلان والترك من اللطف، لأنه عرفه مصمما على الكفر لا يأتي منه خير.
{فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا} ما فعلت بالمكذبين حتى لا يبقى لكم شبهة في أني لا أقدّر الشر ولا أشاؤه، حيث أفعل ما أفعل بالأشرار.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولقد} أي والله لقد {بعثنا} أي على ما لنا من العظمة التي من اعترض عليها أخذ {في كل أمة} من الأمم الذين قبلكم {رسولا} فما بقي في الأرض أحد لم تبلغه الدعوة، ولأجل أن الرسل قد تكون من غير المرسل إليهم كلوط وشعيب عليهما السلام في أصحاب الأيكة وسليمان عليه السلام في غير بني إسرائيل من سائر من وصل إليه حكمه من أهل الأرض لم يقيد ب "منهم". ولما كان البعث متضمناً معنى القول، كان المعنى: فذهبوا إليهم قائلين: {أن اعبدوا الله} أي الملك الأعلى وحده {واجتنبوا} أي بكل جهدكم {الطاغوت} كما أمركم رسولنا...
ثم التفت إلى مخاطبتهم إشارة إلى أنه لم يبق بعد هذا الدليل القطعي في نظر البصيرة إلا الدليل المحسوس للبصر فقال: {فسيروا} أي فإن كنتم أيها المخاطبون في شك من إخبار الرسل فسيروا {في الأرض} أي جنسها {فانظروا} أي إذا سرتم ومررتم بديار المكذبين وآثارهم، وعبر هنا بالفاء المشيرة إلى التعقب دون تراخ لأن المقام للاستدلال المنقذ من الضلال الذي تجب المبادرة إلى الإقلاع عنه...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً} تحقيقٌ لكيفية تعلقِ مشيئتِه تعالى بأفعال العبادِ بعد بيانِ أن الإلجاءَ ليس من وظائف الرسالةِ ولا من باب المشيئةِ المتعلقةِ بما يدور عليه الثوابُ والعقاب من الأفعال الاختياريةِ لهم، أي بعثنا في كل أمة من الأمم الخالية رسولاً خاصاً بهم {أَنِ اعبدوا الله} يجوز أن تكون (أن) مفسرةً لما في البعث من معنى القول وأن تكون مصدريةً، أي بعثنا بأن اعبدوا الله وحده {واجتنبوا الطاغوت}...
{فَمِنْهُمْ} أي من تلك الأمم، والفاء فصيحة، أي فبلَّغوا ما بُعثوا به من الأمر بعبادة الله وحده واجتنابِ الطاغوت فتفرقوا فمنهم...
{وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة}... وتغيير الأسلوبِ للإشعار بأن ذلك لسوء اختيارِهم كقوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} فلم يكن كلٌّ من مشيئة الهدايةِ وعدمِها إلا حسبما حصل منهم من التوجهُ إلى الحق وعدمِه، لا بطريق القسرِ والإلجاءِ حتى يُستدلَ بعدمهما على عدم تعلقِ مشيئتِه تعالى بعبادتهم له تعالى وحده..
{كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين}... وترتيبُ الأمرِ بالسير على مجرد الإخبارِ بثبوت الضلالةِ عليهم من غير إخبارٍ بحلول العذابِ للإيذان بأنه غنيٌّ عن البيان وأنْ ليس الخبرُ كالعِيان، وترتيبُ النظر على السير لما أنه بعده وأن مَلاك الأمر في تلك العاقبة هو التكذيبُ والتعلّلُ بأنه لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 35]
قال الله تعالى رادا عليهم شبههم: {فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لم ينكره عليكم. بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار، ونهاكم عنه آكد النهى، وبعث في كل أمة، أي في كل قرن وطائفة من الناس، رسولا. وكلهم يدعو إلى عبادة الله، وينهى عن عبادة ما سواه: {أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وهو ما يعبد من دونه سبحانه. فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم، من عهد نوح أول رسول إلى أهل الأرض، إلى زمن خاتم النبيين صلوات الله عليه وعليهم. ودعوة الكل واحدة كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} وكما أخبر هنا في هذه الآية. فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: {لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء}؟ فمشيئته تعالى الشرعية عنهم منتفية، لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله. وأما مشيئته الكونية، وهي تمكينهم من ذلك قدرا، فلا حجة لهم فيها، أي لأنها من سر القدر الذي حظر الخوض فيه...
ونسوق هنا أيضا ما قرأته للإمام ابن تيمية، عليه الرحمة، في أول الجزء الثاني من (منهاج السنة) مما يتعلق بالآية، وإن يكن سبق لنا نقل عنه أيضا. فإن الآية من معارك الأفهام. فلا علينا أن نجلو عن الشبه فيها صدأ الأوهام. قال عليه الرحمة: هذا مقام يكثر خوض النفوس فيه. فإن كثيرا من الناس، إذا أمر بما يجب عليه تعلل بالقدر وقال: حتى يقدر الله ذلك، أو يقدرني الله على ذلك، أو حتى يقضي الله ذلك. وكذلك إذا نهي عن فعل ما حرم الله قال: الله قضاه علي بذلك، ونحو هذا الكلام. والاحتجاج بالقدر حجة باطلة داحضة. باتفاق كل ذي عقل ودين من جميع العالمين. والمحتج به لا يقبل من غيره مثل هذه الحجة، إذا احتج بها في ظلم ظلمه إياه وترك ما يجب عليه من حقوقه. بل يطلب منه ماله عليه، ويعاقبه على عدوانه عليه. وإنما هو من جنس شبه السوفسطائية التي تعرض في العلوم. فكأنك تعلم فسادها بالضرورة. وإن كانت تعرض كثيرا للكثير من الناس. حتى قد يشك في وجود نفسه، وغير ذلك من المعارض الضرورية. فكذلك هذا يعرض في الأعمال حتى يظن أنها شبهة في إسقاط الصدق والعدل الواجب، وغير ذلك. وإباحة الكذب والظلم وغير ذلك. ولكن تعلم القلوب بالضرورة أن هذه شبهة باطلة. ولهذا لا يقبله أحد عند التحقيق ولا يحتج بها أحد إلا مع عدم علمه بالحجة بما فعله. فإذا كان معه علم بأن ما فعله هو المصلحة، وهو المأمور وهو الذي ينبغي فعله، ولم يحتج بالقدر. وكذلك إذا كان معه علم بأن الذي لم يفعله ليس عليه أن يفعله، أو ليس بمصلحة أو ليس هو مأمورا به لم يحتج بالقدر. بل إذا كان متبعا لهواه بغير علم، احتج بالقدر. ولهذا لما قال المشركون: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} قال الله تعالى: {هل عندكم من علم فتخرجوه لنا، إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون}، {قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} فإن هؤلاء المشركين يعلمون بفطرتهم وعقولهم أن هذه الحجة داحضة وباطلة. فإن أحدهم لو ظلم الآخر أو حرج في ماله أو فرج امرأته أو قتل ولده أو كان مصرا على الظلم فنهاه الناس عن ذلك فقال: لو شاء الله لم أفعل هذا -لم يقبلوا منه هذه الحجة. ولا هو يقبلها من غيره. وإنما يحتج بها المحتج دفعا للّوم بلا وجه. فقال الله تعالى: {هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} بأن هذا الشرك والتحريم من أمر الله، وأنه مصلحة ينبغي فعله: {إن تتبعون إلا الظن} فإنه لا علم عندكم بذلك، إن تظنون ذلك إلا ظنا {وإن أنتم إلا تخرصون} وتفترون. فعمدتكم في نفس الأمر ظنكم وخرصكم. ليس عمدتكم في نفس الأمر كون الله شاء ذلك وقدره. فإن مجرد المشيئة والقدرة لا تكون عمدة لأحد في الفعل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...وأسندت هداية بعضهم إلى الله مع أنه أمر جميعهم بالهدى تنبيهاً للمشركين على إزالة شبهتهم في قولهم: {لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء} [سورة النحل: 35] بأن الله بيّن لهم الهُدى، فاهتداء المهتدين بسبب بيانه، فهو الهادي لهم. والتّعبير في جانب الضلالة بلفظ حقّت عليهم دون إسناد الإضلال إلى الله إشارة إلى أن الله لما نهاهم عن الضلالة فقد كان تصميمهم عليها إبقاء لضلالتهم السابقة فحقّت عليهم الضلالة، أي ثبتت ولم ترتفع.
وفي ذلك إيماء إلى أن بقاء الضلالة من كسب أنفسهم؛ ولكن ورد في آيات أخرى أن الله يضلّ الضالّين، كما في قوله: {ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقاً حرجاً} [سورة الأنعام: 125]، وقوله عقب هذا {فإن الله لا يهدي من يضلّ} [سورة النحل: 37] على قراءة الجمهور، ليحصل من مجموع ذلك علم بأن الله كَوّنَ أسباباً عديدة بعضها جاءٍ من توالد العقول والأمزجة واقتباس بعضها من بعض، وبعضها تابع للدعوات الضالّة بحيث تهيّأت من اجتماع أمور شتّى لا يحصيها إلا الله، أسباب تامّة تحول بين الضالّ وبين الهدى. فلا جرم كانت تلك الأسباب هي سبب حقّ الضلالة عليهم، فباعتبار الأسباب المباشرة كان ضلالهم من حالات أنفسهم، وباعتبار الأسباب العالية المتوالدة كان ضلالهم من لدن خالق تلك الأسباب وخالق نواميسها في متقادم العصور. فافْهَم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{واجتنبوا الطاغوت}، أي ابعدوا عن أنفسكم الطاغوت، أي جانبوه، والطاغوت فعلوت من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، ويشمل مجاوزة الحد في العقول فيعبد مالا ينفع ولا يضر، ويشرك مع الله غيره وتتحكم فيه الأوهام، فيرى الباطل حقا والحق باطلا، ويشمل ظلم العباد، والطغيان عليهم، ويشمل الطغيان في المعاملات والظلم، وغير ذلك. فالدعوة أي الوحدانية واجتناب الطاغوت جامعة لكل معاني الرسالة من عقيدة، وتعامل الناس بعضها مع بعض، هذه رسالة رسل الله في الأرض، اعتقاد سليم، وتعاون وعمل عادل مستقيم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
... وهذا هو المنهج الذي أراد الله أن يحكم الحياة في حركة الناس، فهو يرسل إلى الناس الرسول، ليبلغهم رسالاته، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة، في ما أعدّه لهم من عقل قادر على التخطيط والوصول إلى النتائج الكبيرة، وما منحهم من إرادة وقدرة على الاختيار. ولا تختلف الرسالات ولا الرسل، في الخط العام الذي يحكم دعوتهم، فهناك خطٌّ إيجابيٌّ يتعلق بالموقف من الله، وهو أن يعبدوا الله وحده، بكل ما تعنيه العبادة من التزام بإرادة الله وأوامره ونواهيه، في كل شيء، مهما كان صغيراً. وهناك خط سلبي يتعلق بالموقف من الناس، وهو أن يجتنبوا الطاغوت، بكل ما توحي به الكلمة من نهج الطغيان في الحكم والشريعة والمنهج والموقف والشخص، الذي لا يلتقي بالله من قريبٍ أو من بعيد. وبهذا يكون كل ما عدا الله طاغوتاً، بينما يكون الالتزام بالنهج الذي حدده الوحي، عبادةً لله وخضوعاً له...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... فأساس دعوة جميع الأنبياء واللبنة الأُولى لتحركهم هي الدعوة إلى التوحيد ومحاربة الطاغوت، وذلك لأنّ أُسس التوحيد إِذا لم تحكم ولم يطرد الطواغيت من بين المجتمعات البشرية فلا يمكن إجراء أيُّ برنامج إصلاحي.