ثم أكد - سبحانه - وعده بإتمام نوره ، وبين كيفية هذا الإتمام فقال : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ . . . } .
والمراد بالهدى : القرآن الكريم : المشتمل على الإرشادات السامية ، والتوجيهات القويمة ، والأخبار الصادقة ، والتشريعات الحكيمة .
والمراد بدين الحق : دين الإسلام الذى هو خاتم الأديان .
وقوله : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } من الإظهار بمعنى الإعلاء والغلبة بالحجة والبرهان ، والسيادة والسلطان .
والجملة تعليلية لبيان سبب هذا الإرسال والغاية منه .
والضمير فى " ليظهره " يعود على الدين الحق ، أوعلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أى : هو الله - سبحانه - الذى أرسل رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن الهادى للتى هى أقوم . وبالدين الحق الثابت الذى لا ينسخه دين آخر ، وكان هذا الإرسال لإظهار هذا الدين الحق على سائر الأديان بالحجة والغلبة .
{ وَلَوْ كَرِهَ المشركون } ذلك ، فإن كراهيتهم لا أثر لها فى ظهوره ، وفى إعلائه على جميع الأديان .
ولقد أنجز الله - تعالى - وعده ، حيث جعل دين الإسلام ، هو الدين الغالب على جميع الأديان ، بحججه وبراهينه الدالة على أنه الدين الحق الذى لا يحوم حوله باطل .
هذا ، وقد ساق الإمام ابن كثير بعض الأحاديث التى تؤيد ذلك ، ومنها : ما ثبت فى الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الله زوى لى الأرض مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتى ما زوى لى منها " .
لقد جرى قدر الله أن يظهر هذا الدين ، فكان من الحتم أن يكون :
( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون ) . .
وشهادة الله لهذا الدين بأنه ( الهدى ودين الحق )هي الشهادة . وهي كلمة الفصل التي ليس بعدها زيادة . ولقد تمت إرادة الله فظهر هذا الدين على الدين كله . ظهر في ذاته كدين ، فما يثبت له دين آخر في حقيقته وفي طبيعته . فأما الديانات الوثنية فليست في شيء في هذا المجال . وأما الديانات الكتابية فهذا الدين خاتمتها ، وهو الصورة الأخيرة الكاملة الشاملة منها ، فهو هي ، في الصورة العليا الصالحة إلى نهاية الزمان .
ولقد حرفت تلك الديانات وشوهت ومزقت وزيد عليها ما ليس منها ، ونقصت من أطرافها ، وانتهت لحال لا تصلح معه لشيء من قيادة الحياة . وحتى لو بقيت من غير تحريف ولا تشويه فهي نسخة سابقة لم تشمل كل مطالب الحياة المتجددة أبدا ، لأنها جاءت في تقدير الله لأمد محدود .
فهذا تحقيق وعد الله من ناحية طبيعة الدين وحقيقته . فأما من ناحية واقع الحياة ، فقد صدق وعد الله مرة ، فظهر هذا الدين قوة وحقيقة ونظام حكم على الدين كله فدانت له معظم الرقعة المعمورة في الأرض في مدى قرن من الزمان . ثم زحف زحفا سلميا بعد ذلك إلى قلب آسيا وأفريقية ، حتى دخل فيه بالدعوة المجردة خمسة أضعاف من دخلوا في إبان الحركات الجهادية الأولى . . وما يزال يمتد بنفسه دون دولة واحدة - منذ أن قضت الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على الخلافة الأخيرة في تركيا على يدي " البطل " الذي صنعوه ! - وعلى الرغم من كل ما يرصد له في أنحاء الأرض من حرب وكيد ، ومن تحطيم للحركات الإسلامية الناهضة في كل بلد من بلاد الإسلام على أيدي " أبطال " آخرين من صنع الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على السواء .
وما تزال لهذا الدين أدوار في تاريخ البشرية يؤديها ، ظاهرا بإذن الله على الدين كله تحقيقا لوعد الله ، الذي لا تقف له جهود العبيد المهازيل ، مهما بلغوا من القوة والكيد والتضليل !
ولقد كانت تلك الآيات حافزا للمؤمنين المخاطبين بها على حمل الأمانة التي اختارهم الله لها بعد أن لم يرعها اليهود والنصارى . وكانت تطمينا لقلوبهم وهم ينفذون قدر الله في إظهار دينه الذي أراده ليظهر ، وإن هم إلا أداة . وما تزال حافزا ومطمئنا لقلوب المؤمنين الواثقين بوعد ربهم ، وستظل تبعث في الأجيال القادمة مثل هذه المشاعر حتى يتحقق وعد الله مرة أخرى في واقع الحياة . بإذن الله .
ثم قال : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } أي : يحاولون{[28795]} أن يَرُدّوا الحق بالباطل ، ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه ، وكما أن هذا مستحيل كذلك ذاك مستحيل{[28796]} ؛
ولهذا قال : { وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } وقد تقدم الكلام على هاتين الآيتين في سورة " براءة " ، بما فيه كفاية ، ولله الحمد والمنة{[28797]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىَ وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } . يقول تعالى ذكره : الله الذي أرسل رسوله محمدا بالهدى ودين الحقّ ، يعني ببيان الحقّ ودين الحقّ يعني : وبدين الله ، وهو الإسلام .
وقوله : لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلّه يقول : ليظهر دينه الحقّ الذي أرسل به رسوله على كلّ دين سواه ، وذلك عند نزول عيسى ابن مريم ، وحين تصير الملة واحدة ، فلا يكون دين غير الإسلام ، كما : حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي المقدام ثابت بن هرمز ، عن أبي هريرة لِيَظْهِرَهُ على الدّينِ كُلّه قال : خروج عيسى ابن مريم .
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في معنى قوله لَيُظْهِرَهُ على الدّين كُلّهِ والصواب عندنا من القول في ذلك بعلله فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقد :
حدثني عبد الحميد بن جعفر ، قال : حدثنا الأسود بن العلاء ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «لا يَذْهَبُ اللّيْلُ والنّهارُ حتى تُعْبَدَ اللاّتُ والعُزّى » فقالت عائشة : والله يا رسول الله إن كنت لأظنّ حين أنزل الله هُوَ الّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بالهُدَى وَدِينِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلّه . . . الآية ، أن ذلك سيكون تاما ، فقال : «إنّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذلكَ ما شاءَ اللّهُ ، ثُمّ يَبْعَثُ اللّهُ رِيحا طَيّبَةً ، فَيَتَوَفّى مَنْ كانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقالُ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مَنْ خَيْرٍ ، فَيَبْقَى مَنْ لا خَيْرَ فِيهِ ، فَيَرْجِعُونَ إلى دِينِ آبائِهمْ » .
هذا تأكيد لأمر الرسالة وشد لأزرها كما يقول الإنسان لأمر يثبته ويقويه أنا فعلته ، أي فمن يقدر على معارضته فليعارض ، والرسول المشار إليه محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : { على الدين كله } لفظ يصلح للعموم وأن يكون المعنى أو لا يبقى موضع فيه دين غير الإسلام ، وهذا لا يكون إلا عند نزول عيسى ابن مريم ، قاله مجاهد وأبو هريرة ، ويحتمل أن يكون المعنى أن يظهره حتى لا يوجد دين إلا الإسلام أظهر منه ، وهذا قد كان ووجد ، ثم ندب تعالى المؤمنين وحضهم على الجهاد بهذه التجارة التي بينها ، وهي أن يعطي المرء نفسه وماله ، ويأخذ ثمناً جنة الخلد .
هذا زيادة تحدِّ للمشركين وأحلافهم من أهل الكتاب فيه تقوية لمضمون قوله : { والله متم نوره ولو كره الكافرون } [ الصف : 8 ] . وفيه معنى التعليل للجملة التي قبله . فقد أفاد تعريفُ الجزأيْن في قوله : { هو الذي أرسل رسوله } قصراً إضافياً لقلببِ زَعْم الكافرين أن محمّداً صلى الله عليه وسلم أتى من قِبَلِ نفسه ، أي الله لا غيره أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق . وأن شيئاً تولى الله فعله لا يستطيع أحد أن يزيله .
وتعليل ذلك بقوله : { ليظهره على الدين كله } إعلام بأن الله أراد ظهور هذا الدين وانتشاره كيلا يطمعوا أن يناله ما نال دين عيسى عليه السّلام من القمع والخفت في أول أمره واستمر زماناً طويلاً حتى تنصَّر قسطنطينُ سلطانُ الروم ، فلما أخبر الله بأنه أراد إظهار دين الإِسلام على جميع الأديان عُلم أن أمره لا يزال في ازدياد حتى يتمّ المراد .
والإِظهار : النصر ويطلق على التفضيل والإِعلاء المعنوي .
والتعريف في قوله : { على الدين } تعريف الجنس المفيد للاستغراق ، أي ليعلي هذا الدين الحق على جميع الأديان وينصر أهله على أهل الأديان الأخرى الذين يتعرضون لأهل الإسلام .
ويظهر أن لفظ { الدين } مستعمل في كلا معنييه : المعنى الحقيقي وهو الشريعة . والمعنى المجازي وهو أهل الدّين كما تقول : دخلت قرية كذا وأكرمتني ، فإظهار الدين على الأديان بكونه أعلى منها تشريعاً وآداباً ، وأصلح بجميع الناس لا يخص أمة دون أخرى ولا جيلاً دون جيل .
وإظهار أهله على أهل الأديان بنصر أهله على الذين يشاقُّونهم في مدة ظهوره حتى يتمّ أمره ويستغني عمن ينصره .
وقد تمّ وعد الله وظهر هذا الدين وملك أهله أمماً كثيرة ثم عرضت عوارض من تفريط المسلمين في إقامة الدين على وجهه فغلبت عليهم أمم ، فأمّا الدين فلم يزل عالياً مشهوداً له من علماء الأمم المنصفين بأنه أفضل دين للبشر .
وخص المشركون بالذكر هنا إتماماً للذين يكرهون إتمام هذا النور ، وظهور هذا الدين على جميع الأديان . ويعلم أن غير المشركين يكرهون ظهور هذا الدين لأنهم أرادوا إطفاء نور الدين لأنهم يكرهون ظهور هذا الدين فحصل في الكلام احتباك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال: {هو الذي أرسل رسوله} محمدا صلى الله عليه وسلم، {بالهدى ودين الحق} يعني الإسلام، يعني دين محمد صلى الله عليه وسلم {ليظهره على الدين كله} يعني الأديان كلها، ففعل الله تعالى ذلك، وأظهر دين محمد صلى الله عليه وسلم على أهل كل دين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الله الذي أرسل رسوله محمدا بالهدى ودين الحقّ، يعني ببيان الحقّ ودين الحقّ يعني: وبدين الله، وهو الإسلام.
وقوله:"لِيُظْهِرَهُ على الدّينِ كُلّه "يقول: ليظهر دينه الحقّ الذي أرسل به رسوله على كلّ دين سواه، وذلك عند نزول عيسى ابن مريم، وحين تصير الملة واحدة، فلا يكون دين غير الإسلام...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{هو الذي أرسل رسوله بالهدى} يعني بما اتبعوه اهتدوا به.
وقوله تعالى: {ودين الحق} له أوجه ثلاثة؛
أحدها: أن يجعل الحق كناية عن الله تعالى، فكأنه قال: دين الله.
والثاني: أن يجعل الحق نعتا للدين؛ فكأنه قال: ودين الله الذي هو الحق من سائر الأديان.
والثالث: أن يقول: ودين الله الذي يحق على كل أحد قبوله والانقياد له، والله اعلم.
وقوله تعالى: {ليظهره على الدين كله} له وجهان:
أحدهما: أن يقول: {ليظهره} يعني يظهر رسوله عليه السلام على كل ما يحتاج في هذا الدين من النوازل، فيكون فيه بيان أن ما جاء عنه عليه السلام في هذه النوازل إنما هو بالوحي وبما أظهره الله تعالى عليه. ويحتمل إظهار هذا الدين في الأماكن كلها، والدين، هو الخضوع والاستسلام لله تعالى. فحقيقته أن يجعل الأشياء كلها سالمة له.
{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} من دلائل النبوّة؛ لأنه أخبر بذلك والمسلمون في ضعف وقلة وحال خوف مستذلّون مقهورون، فكان مخبره على ما أخبر به؛ لأن الأديان التي كانت في ذلك الزمان اليهودية والنصرانية والمجوسية والصابئة وعبّاد الأصنام من السِّنْدِ وغيرهم، فلم تَبْقَ من أهل هذه الأديان أمّةٌ إلا وقد ظهر عليهم المسلمون فقهروهم وغلبوهم على جميع بلادهم أو بعضها... فهذا هو مصداق هذه الآية التي وعد الله تعالى رسوله فيها إظهاره على جميع الأديان؛ وقد علمنا أن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل ولا يوحي به إلا إلى رسله، فهذه دلالة واضحة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: كيف يكون ذلك إظهاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على جميع الأديان وإنما حدث بعد موته؟ قيل له: إنما وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يظهر دينه على سائر الأديان لأنه قال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ} يعني دين الحق، وعلى أنه لو أراد رسوله لكان مستقيماً؛ لأنه إذا أظهر دينه ومن آمن به على سائر الأديان فجائز أن يقال قد أظهر نبيه صلى الله عليه وسلم، كما أن جيشاً لو فتحوا بلداً عنوة جاز أن يقال إن الخليفة فتحه وإن لم يشهد القتال، إذْ كان بأمره وتجهيزه للجيش فعلوا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَدِينِ الحق} الملة الحنفية {لِيُظْهِرَهُ} ليعليه {عَلَى الدين كُلِّهِ} على جميع الأديان المخالفة له؛ ولعمري لقد فعل، فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا تأكيد لأمر الرسالة وشد لأزرها كما يقول الإنسان لأمر يثبته ويقويه أنا فعلته، أي فمن يقدر على معارضته فليعارض، والرسول المشار إليه محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: {على الدين كله} لفظ يصلح للعموم وأن يكون المعنى أو لا يبقى موضع فيه دين غير الإسلام، وهذا لا يكون إلا عند نزول عيسى ابن مريم، قاله مجاهد وأبو هريرة، ويحتمل أن يكون المعنى أن يظهره حتى لا يوجد دين إلا الإسلام أظهر منه، وهذا قد كان ووجد، ثم ندب تعالى المؤمنين وحضهم على الجهاد بهذه التجارة التي بينها، وهي أن يعطي المرء نفسه وماله، ويأخذ ثمناً جنة الخلد.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{هو} أي الذي ثبت أنه جامع لصفات الجمال والجلال وحده من غير أن يكون له شريك أو وزير، {الذي أرسل} بما له من القوة والإرادة {رسوله} أي الحقيق بأن يعظمه كل من بلغه أمره لأن عظمته من عظمته، ولم يذكر حرف الغاية إشارة إلى عموم الإرسال إلى كل من شمله الملك كما مضى {بالهدى} أي البيان الشافي {ودين الحق} أي الملك الذي ثباته لا يدانيه ثبات، فلا ثبات لغيره، فثبات هذا الدين بثباته، ويجوز أن يكون المعنى: والدين الذي هو الحق الثابت في الحقية الكامل فيها كمالاً ليس لغيره، فيكون من إضافة الموصوف إلى صفته إشارة إلى شدة التباسه بها {ليظهره} أي يعليه مع الشهرة وإذلال المنازع {على الدين} أي جنس الشريعة التي تجعل ليجازي من يسلكها و من يزيغ عنها، بها يشرع فيها من الأحكام {كله} فلا يبقى دين إلا كان دونه وانمحق به وذل أهله له ذلاً لا يقاس به ذل، {ولو كره} أي إظهاره {المشركون} أي المعاندون في كفرهم الراسخون في تلك المعاندة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد جرى قدر الله أن يظهر هذا الدين، فكان من الحتم أن يكون:
(هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون)..
وشهادة الله لهذا الدين بأنه (الهدى ودين الحق) هي الشهادة. وهي كلمة الفصل التي ليس بعدها زيادة. ولقد تمت إرادة الله فظهر هذا الدين على الدين كله. ظهر في ذاته كدين، فما يثبت له دين آخر في حقيقته وفي طبيعته. فأما الديانات الوثنية فليست في شيء في هذا المجال. وأما الديانات الكتابية فهذا الدين خاتمتها، وهو الصورة الأخيرة الكاملة الشاملة منها، فهو هي، في الصورة العليا الصالحة إلى نهاية الزمان.
ولقد حرفت تلك الديانات وشوهت ومزقت وزيد عليها ما ليس منها، ونقصت من أطرافها، وانتهت لحال لا تصلح معه لشيء من قيادة الحياة. وحتى لو بقيت من غير تحريف ولا تشويه فهي نسخة سابقة لم تشمل كل مطالب الحياة المتجددة أبدا، لأنها جاءت في تقدير الله لأمد محدود.
فهذا تحقيق وعد الله من ناحية طبيعة الدين وحقيقته. فأما من ناحية واقع الحياة، فقد صدق وعد الله مرة، فظهر هذا الدين قوة وحقيقة ونظام حكم على الدين كله فدانت له معظم الرقعة المعمورة في الأرض في مدى قرن من الزمان. ثم زحف زحفا سلميا بعد ذلك إلى قلب آسيا وأفريقية، حتى دخل فيه بالدعوة المجردة خمسة أضعاف من دخلوا في إبان الحركات الجهادية الأولى.. وما يزال يمتد بنفسه دون دولة واحدة -منذ أن قضت الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على الخلافة الأخيرة في تركيا على يدي "البطل " الذي صنعوه!- وعلى الرغم من كل ما يرصد له في أنحاء الأرض من حرب وكيد، ومن تحطيم للحركات الإسلامية الناهضة في كل بلد من بلاد الإسلام على أيدي " أبطال " آخرين من صنع الصهيونية العالمية والصليبية العالمية على السواء.
وما تزال لهذا الدين أدوار في تاريخ البشرية يؤديها، ظاهرا بإذن الله على الدين كله تحقيقا لوعد الله، الذي لا تقف له جهود العبيد المهازيل، مهما بلغوا من القوة والكيد والتضليل!
ولقد كانت تلك الآيات حافزا للمؤمنين المخاطبين بها على حمل الأمانة التي اختارهم الله لها بعد أن لم يرعها اليهود والنصارى. وكانت تطمينا لقلوبهم وهم ينفذون قدر الله في إظهار دينه الذي أراده ليظهر، وإن هم إلا أداة. وما تزال حافزا ومطمئنا لقلوب المؤمنين الواثقين بوعد ربهم، وستظل تبعث في الأجيال القادمة مثل هذه المشاعر حتى يتحقق وعد الله مرة أخرى في واقع الحياة. بإذن الله.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا زيادة تحدِّ للمشركين وأحلافهم من أهل الكتاب فيه تقوية لمضمون قوله: {والله متم نوره ولو كره الكافرون} [الصف: 8]. وفيه معنى التعليل للجملة التي قبله. فقد أفاد تعريفُ الجزأيْن في قوله: {هو الذي أرسل رسوله} قصراً إضافياً لقلبِ زَعْم الكافرين أن محمّداً صلى الله عليه وسلم أتى من قِبَلِ نفسه، أي الله لا غيره أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق. وأن شيئاً تولى الله فعله لا يستطيع أحد أن يزيله. وتعليل ذلك بقوله: {ليظهره على الدين كله} إعلام بأن الله أراد ظهور هذا الدين وانتشاره كيلا يطمعوا أن يناله ما نال دين عيسى عليه السّلام من القمع والخفت في أول أمره واستمر زماناً طويلاً حتى تنصَّر قسطنطينُ سلطانُ الروم، فلما أخبر الله بأنه أراد إظهار دين الإِسلام على جميع الأديان عُلم أن أمره لا يزال في ازدياد حتى يتمّ المراد. والإِظهار: النصر ويطلق على التفضيل والإِعلاء المعنوي. والتعريف في قوله: {على الدين} تعريف الجنس المفيد للاستغراق، أي ليعلي هذا الدين الحق على جميع الأديان وينصر أهله على أهل الأديان الأخرى الذين يتعرضون لأهل الإسلام. ويظهر أن لفظ {الدين} مستعمل في كلا معنييه: المعنى الحقيقي وهو الشريعة. والمعنى المجازي وهو أهل الدّين كما تقول: دخلت قرية كذا وأكرمتني، فإظهار الدين على الأديان بكونه أعلى منها تشريعاً وآداباً، وأصلح بجميع الناس لا يخص أمة دون أخرى ولا جيلاً دون جيل. وإظهار أهله على أهل الأديان بنصر أهله على الذين يشاقُّونهم في مدة ظهوره حتى يتمّ أمره ويستغني عمن ينصره. وقد تمّ وعد الله وظهر هذا الدين وملك أهله أمماً كثيرة ثم عرضت عوارض من تفريط المسلمين في إقامة الدين على وجهه فغلبت عليهم أمم، فأمّا الدين فلم يزل عالياً مشهوداً له من علماء الأمم المنصفين بأنه أفضل دين للبشر. وخص المشركون بالذكر هنا إتماماً للذين يكرهون إتمام هذا النور، وظهور هذا الدين على جميع الأديان. ويعلم أن غير المشركين يكرهون ظهور هذا الدين لأنهم أرادوا إطفاء نور الدين لأنهم يكرهون ظهور هذا الدين فحصل في الكلام احتباك.