قوله تعالى : { قالت يا ويلتى } ، نداء ندبة وهي كلمة يقولها الإنسان عند رؤية ما يتعجب منه ، أي : يا عجبا . والأصل يا ويلتاه . { أألد وأنا عجوز } ، وكانت ابنة تسعين سنة في قول ابن إسحاق . وقال مجاهد : تسعا وتسعين سنة . { وهذا بعلي } ، زوجي ، سمي بذلك لأنه قيم أمرها ، { شيخاً } ، نصب على الحال ، وكان سن إبراهيم مائة وعشرين سنة في قول ابن إسحاق . وقال مجاهد : مائة سنة ، وكان بين البشارة والولادة سنة . { إن هذا لشيء عجيب * } .
ولا شك أن المرأة عندما تكون قد بلغت سن اليأس . ولم يكن لها ولد ، ثم تأتيها مثل هذه البشارة يهتز كيانها ، ويزداد عجبها ، ولذا قالت على سبيل الدهشة والاستغراب : { ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } .
وكلمة { يا ويلتى } تستعمل فى التحسر والتألم والتفجع عند نزول مكروه .
والمراد بها هنا : التعجب لا الدعاء على نفسها بالويل والهلاك ، وهى كلمة كثيرة الدوران على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يدهشن له ، ويتعجبن منه .
أى : قالت بدهشة وعجب عندما سمعت بشارة الملائكة لها بالود وبولد الولد : يا للعجب أألد وأنا امرأة عجوز ، قد بلغت سن اليأس من الحمل منذ زمن طويل ، { وهذا بَعْلِي } أى : زوجى إبراهيم " شيخا " كبيراً متقدماً فى السن .
قال الجمل : وهاتان الجملتان - { وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً } - فى محل النصب على الحال من الضمير المستتر فى { أألد } وشيخاً حال من بعلى ، والعامل فيه اسم الإِشارة لما فيه من معنى الفعل .
وقوله - كما حكى القرآن عنها - { إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } - أى : إن هذا الذى بشرتمونى به من حصول الولد لى فى تلك السن المتقدمة { لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } فى مجرى العادة عند النساء
{ قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ }
يقول تعالى ذكره : قالت سارّة لما بُشّرت بإسحاق أنها تلد تعجبا مما قيل لها من ذلك ، إذ كانت قد بلغت السنّ التي لا يلد من كان قد بلغها من الرجال والنساء ، وقيل : إنها كانت يومئذ ابنة تسع وتسعين سنة وإبراهيم ابن مِئة سنة ، وقد ذُكِرَت الرواية فيما رُوى في ذلك عن مجاهد قبلُ .
وأما ابن إسحاق ، فإنه قال في ذلك ما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : كانت سارّة يوم بشرت بإسحاق فيما ذَكَر لي بعض أهل العلم ابنة تسعين سنة ، وإبراهيم ابن عشرين ومئة سنة .
يا وَيْلَتا وهي كلمة تقولها العرب عند التعجب من الشيء والاستنكار للشيء ، فيقولون عند التعجب : ويلُ امّه رجلاً ما أرجله .
وقد اختلف أهل العربية في هذه الألف التي في : يا وَيْلَتَا فقال بعض نحويي البصرة : هذه ألف حقيقة ، إذا وقفت قلت : يا ويلتاه ، وهي مثل ألف النّدبة ، فلطفت من أن تكون في السكت ، وجعلت بعدها الهاء لتكون أبين لها وأبعد في الصوت وذلك لأن الألف إذا كانت بين حرفين كان لها صدى كنحو الصوت يكون في جوف الشيء فيتردّد فيه ، فتكون أكثر وأبين . وقال غيره : هذه ألف الندبة ، فإذا وقفت عليها فجائز ، وإن وقفت على الهاء فجائز وقال : ألا ترى أنهم قد وقفوا على قوله : وَيَدْعُوا الإنْسانُ فحذفوا الواو وأثبتوها ، وكذلك : ما كُنّا نَبْغِي بالياء ، وغير الياء ؟ قال : وهذا أقوى من ألف النّدبة وهائها .
والصواب من القول في ذلك عندي أن هذه الألف ألف الندبة ، والوقف عليها بالهاء وغير الهاء جائز في الكلام لاستعمال العرب ذلك في كلامهم .
وقوله : ءألِدُ وأنا عَجُوزٌ تقول : أنى يكون لي ولد وأنا عجوز . وَهَذَا بَعْلى شَيْخا والبعل في هذا الموضع : الزوج وسمي بذلك لأنه قّيم أمرها ، كما سموا مالك الشيء بعله ، وكما قالوا للنخل التي تستغني بماء السماء عن سقي ماء الأنهار والعيون البعل ، لأن مالك الشيء القيم به ، والنخل البعل بماء السماء حياته . وقوله : إنّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ يقول : إن كون الولد من مثلي ومثل بعلي على السنّ التي بها نحن لشيء عجيب .
لما بشّروها بذلك صرحت بتعجبها الذي كتمته بالضحك ، فقالت : { يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إنّ هذا لشيءٌ عجيب } ، فجملة { قالت } جواب للبشارة .
و ( يعقوب ) مبتدأ { ومن وراء إسحاق } خبر ، والجملة على هذا في محلّ الحال . وهذه قراءة الجمهور . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وحفص { يعقوبَ } بفتحة وهو حينئذٍ عطف على { إسحاق } . وفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف وخطبه سهل وإن استعظمه ظاهرية النحاة كأبي حيان بقياس حرف العطف النائب هنا مناب الجار على الجار نفسه ، وهو قياس ضعيف إذ كون لفظ بمعنى لفظ لا يقتضي إعطاءه جميع أحكامه كما في « مغني اللبيب » .
والنداء في { يا ويلتا } استعارة تبعية بتنزيل الويلة منزلة من يعقل حتّى تنادى ، كأنها تقول : يا ويلتي احضر هنا فهذا موضعك .
والويلة : الحادثة الفظيعة والفضيحة . ولعلّها المرة من الويل . وتستعمل في مقام التعجب ، يقال : يا ويلتي .
واتّفق القرّاء على قراءة { يا ويلتا } بفتحة مشبعة في آخره بألف . والألف التي في آخر { يا ويلتا } هنا يجوز كونها عوضاً عن ياء المتكلم في النداء . والأظهر أنها ألف الاستغاثة الواقعة خلَفاً عن لام الاستغاثة . وأصله : يا لَويلة . وأكثر ما تجيء هذه الألف في التعجّب بلفظ عجب ، نحو : يا عجباً ، وباسم شيء متعجب منه ، نحو : يا عشبا .
وكتب في المصحف بإمالة ولم يقرأ بالإمالة ، قال الزجاج : كتب بصورة الياء على أصل ياء المتكلم .
والاستفهام في { أألد وأنا عجوز } مستعمل في التعجب . وجملة { أنا عجوز } في موضع الحال ، وهي مناط التعجب .
والبعل : الزوج . وسيأتي بيانه عند تفسير قوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلاّ لبعولتهن } في سورة [ النّور : 31 ] ، فانظره .
وزادت تقرير التعجب بجملة { إنّ هذا لشيء عجيب } وهي جملة مؤكدة لصيغة التعجب فلذلك فصلت عن التي قبلها لكمال الاتّصال ، وكأنّها كانت متردّدة في أنهم ملائكة فلم تطمئنّ لتحقيق بشراهم .
وجملة { هذا بعلي } مركبة من مبتدأ وخبر لأنّ المعنى هذا المشار إليه هو بعلي ، أي كيف يكون له ولد وهو كما ترى . وانتصب { شيخاً } على الحال من اسم الإشارة مبينة للمقصود من الإشارة .
وقرأ ابن مسعود { وهذا بعلي شيخ } برفع شيخ على أن ( بعلي ) بيان من ( هذا ) و ( شيخ ) خبر المبتدأ . ومعنى القراءتين واحد .
وقد جرت على هذه القراءة النادرة لطيفة وهي : ما أخبرنا شيخنا الأستاذ الجليل سالم بوحاجب أنّ أبا العبّاس المبرّد دُعي عند بعض الأعيان في بغداد إلى مأدبة ، فلمّا فرغوا من الطّعام غنّت من وراء الستار جارية لرب المنزل ببيتين :
وقالوا لها هذا حبيبك معرضٌ *** فقالت : ألاَ إعراضه أهون الخطب
فما هي إلاّ نظرة وابتسامـة *** فتصطكّ رجلاه ويسقط للجنــب
فطرب كل من بالمجلس إلاّ أبا العبّاس المبرد فلم يتحرك ، فقال له رب المنزل : ما لك لم يطربك هذا ؟ .
فقالت الجارية : مَعذُور يحسبني لحنت في أن قلت : معرضٌ بالرفع ولم يعلم أنّ عبد الله بن مسعود قرأ « وهذا بعلي شيخٌ » فطرب المبرد لهذا الجواب{[251]} .