قوله تعالى : { ألم يروا } ، قرأ ابن عامر ، وحمزة ، ويعقوب : بالتاء ، والباقون بالياء لقوله : { ويعبدون } . { إلى الطير مسخرات } ، مذللات ، { في جو السماء } ، وهو الهواء بين السماء والأرض . عن كعب الأحبار أن الطير ترتفع اثني عشر ميلاً ، ولا يرتفع فوق هذا ، وفوق الجو السكاك ، وفوق السكاك السماء ، { ما يمسكهن } في الهواء { إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } .
ثم حض - سبحانه - عباده على التفكر في مظاهر قدرته فقال - تعالى - : { أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السمآء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله } .
والطير : جمع طائر ، كركب وراكب . و { مسخرات } ، من التسخير ، بمعنى : التذليل والانقياد ، أي : ألم ينظر هؤلاء الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى في العبادة ، إلى الطيور وهن يسبحن في الهواء المتباعد بين الأرض والسماء ، ما يمسكهن في حال قبضهن وبسطهن لأجنحتهن إلا الله - تعالى - ، بقدرته الباهرة ، وبنواميسه التي أودعها في فطرة الطير .
إنهم لو نظروا نظر تأمل وتعقل ، لعلموا أن المسخر لهن هو الله الذي لا معبود بحق سواه ، وفي قوله - تعالى - : { مسخرات } ، إشارة إلى أن طيرانها في الجو ليس بمقتضى طبعها ، وإنما هو بتسخير الله تعالى لها ، وبسبب ما أوجد لها من حواس ساعدتها على ذلك ، كالأجنحة وغيرها . وأضاف - سبحانه - الجو إلى السماء لارتفاعه عن الأرض ، ولإظهار كمال قدرته - سبحانه - .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .
أي : إن في ذلك التسخير والتذليل للطير على هذه الصفة ، { لآيات } بينات على قدرة الله - تعالى - ووحدانيته ، { لقوم يؤمنون } بالحق ، ويفتحون قلوبهم له ، ويسمون بأنفسهم عن التقليد الباطل .
وعجيبة أخرى من آثار القدرة الإلهية يرونها فلا يتدبرونها وهي مشهد عجيب معروض للعيون :
( ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ، ما يمسكهن إلا الله . إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ) . .
ومشهد الطير مسخرات في جو السماء مشهد مكرور ، قد ذهبت الألفة بما فيه من عجب ، وما يتلفت القلب البشري عليه إلا حين يستيقظ ، ويلحظ الكون بعين الشاعر الموهوب . وإن تحليقة طائر في جو السماء لتستجيش الحس الشاعر إلى القصيدة حين تلمسه . فينتفض للمشهد القديم الجديد . . ( ما يمسكهن إلا الله )بنواميسه التي أودعها فطرة الطير وفطرة الكون من حولها ، وجعل الطير قادرة على الطيران ، وجعل الجو من حولها مناسبا لهذا الطيران ؛ وأمسك بها الطير وهي في جو السماء : إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون . . فالقلب المؤمن هو القلب الشاعر ببدائع الخلق والتكوين ، المدرك لما فيها من روعة باهرة تهز المشاعر وتستجيش الضمائر . وهو يعبر عن إحساسه بروعة الخلق ، بالإيمان والعبادة والتسبيح ؛ والموهوبون من المؤمنين هبة التعبير ، قادرون على إبداع ألوان من رائع القول في بدائع الخلق والتكوين ، لا يبلغ إليها شاعر لم تمس قلبه شرارة الإيمان المشرق الوضيء .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىَ الطّيْرِ مُسَخّرَاتٍ فِي جَوّ السّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنّ إِلاّ اللّهُ إِنّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين : ألم تَرَوا أَيّها المشركون بالله إلى الطير مسخرات في جوّ السماء ، يعني : في هواء السماء بينها وبين الأرض ، كما قال إبراهيم بن عمران الأنصاريّ :
وَيْلُمّها مِنْ هَوَاءِ الجَوّ طالِبَةً *** وَلا كَهذا الّذِي في الأرْضِ مَطْلُوبُ
يعني : في هواء السماء . { ما يُمْسِكُهُنّ إلاّ اللّهُ } ، يقول : ما طيرانها في الجوّ إلا بالله ، وبتَسْخِيره إياها بذلك ، ولو سلبها ما أعطاها من الطيران لم تقدر على النهوض ارتفاعا . وقوله : { إنّ فِي ذلكَ لاَياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ، يقول : إن في تسخير الله الطير وتمكينه لها الطيران في جوّ السماء ، لعلامات ودلالات على أن لا إله إلا اللّهُ وحدَه لا شريك له ، وأنه لا حظ للأصنام والأوثان في الألوهة . { لقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ، يعني : لقوم يقرّون بوجدان ما تعاينه أبصارهم وتحسه حواسّهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { مُسَخّرَاتٍ فِي جَوّ السّماءِ } : أي في كبد السماء .
وقوله : { ألم تروا إلى الطير } الآية ، وقرأ طلحة بن مصرف والأعمش وابن هرمز : «ألم تروا » بالتاء ، وقرأ أهل مكة والمدينة : «ألم يروا » ، بالياء على الكناية عنهم ، واختلف عن الحسن وعاصم وأبي عمرو وعيسى الثقفي ، و «الجو » : مسافة ما بين السماء والأرض ، وقيل : هو ما يلي الأرض منها ، وما فوق ذلك هو اللوح ، و «الآية » عبرة بينة تفسيرها تكلف بحت .
موقع هذه الجملة موقع التّعليل والتّدليل على عظيم قدرة الله وبديع صنعه وعلى لطفه بالمخلوقات ، فإنه لما ذكر موهبة العقل والحواس التي بها تحصيل المنافع ودفع الأضرار نبّه الناس إلى لطف يشاهدونه أجلَى مشاهدةً لأضعف الحيوان ، بأن تسخير الجوّ للطير وخلْقَها صالحة لأن ترفرف فيه بدون تعليم هو لطف بها اقتضاه ضعف بنيّاتها ، إذ كانت عادمة وسائل الدفاع عن حياتها ، فجعل الله لها سرعة الانتقال مع الابتعاد عن تناول ما يعدو عليها من البشر والدوابّ .
فلأجل هذا الموقع لم تعطف الجملة على التي قبلها لأنها ليس في مضمونها نعمةٌ على البشر ، ولكنها آية على قدرة الله تعالى وعلمه ، بخلاف نظيرتها في سورة المُلك ( 19 ) { أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافّات } فإنها عُطفت على آيات دالّة على قدرة الله تعالى من قوله : { ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح } [ الملك : 5 ] ، ثم قال : { وللذين كفروا بربّهم عذاب جهنّم وبئس المصير } [ الملك : 6 ] ثم قال : { أأمنتم من السماء أن يخسف بكم الأرض } [ سورة الملك : 16 ] ثم قال : أو لم يروا إلى الطير الآية . ولذلك المعنى عقبت هذه وحدها بجملة إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون .
والتّسخير : التّذليل للعمل . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { والشمس والقمر والنجوم مسخّرات بأمره } في سورة الأعراف ( 54 ) .
والجوّ : الفضاء الذي بين الأرض والسماء ، وإضافته إلى السماء لأنه يبدو متّصلاً بالقبّة الزرقاء في ما يخال النّاظر .
والإمساك : الشدّ عن التفّلّت . وتقدم في قوله تعالى : { فإمساك بمعروف } في سورة البقرة ( 229 ) .
والمراد هنا : ما يمسكهنّ عن السقوط إلى الأرض من دون إرادتها ، وإمساك الله إيّاها خلقه الأجنحة لها والأذنَاب ، وجعله الأجنحة والأذناب قابلة للبسط ، وخلق عظامها أخفّ من عظام الدوابّ بحيث إذا بسطت أجنحتها وأذنابها ونهضت بأعصابها خفّتْ خفّة شديدة فسبحت في الهواء فلا يصلح ثقلها لأن يخرق ما تحتها من الهواء إلا إذا قبضت من أجنحتها وأذنابها وقوّست أعصاب أصلابها عند إرادتها النّزول إلى الأرض أو الانخفاضَ في الهواء . فهي تحوم في الهواء كيف شاءت ثم تقع متى شاءت أو عييت . فلولا أن الله خلقها على تلك الحالة لما استمسكت ، فسُمّي ذلك إمساكاً على وجه الاستعارة ، وهو لطف بها .
والرؤية : بصرية . وفعلها يتعدّى بنفسه ، فتعديته بحرف إلى لتضمين الفعل معنى ( ينظروا ) .
و{ مسخرات } حال . وجملة { ما يمسكهن إلا الله } حال ثانية .
وقرأ الجمهور { ألم يروا } بياء الغائب على طريقة الالتفات عن خطاب المشركين في قوله تعالى : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم } [ سورة النحل : 78 ] .
وقرأ ابن عامر وحمزة ويعقوب وخلف { ألم تَرَوْا } بتاء الخطاب تبعاً للخطاب المذكور .
والاستفهام إنكاري . معناه : إنكار انتفاء رؤيتهم الطير مسخّرات في الجوّ بتنزيل رؤيتهم إيّاها منزلة عدم الرؤية ، لانعدام فائدة الرؤية من إدراك ما يدلّ عليه المرئيّ من انفراد الله تعالى بالإلهية .
وجملة { إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأن الإنكار على المشركين عدم الانتفاع بما يرونه من الدلائل يثير سؤالاً في نفس السامع : أكان عدم الانتفاع بدلالة رؤية الطير عاماً في البشر ، فيجاب بأن المؤمنين يستدلّون من ذلك بدلالات كثيرة .
والتأكيد ب { إنّ } مناسب لاستفهام الإنكار على الذين لم يروا تلك الآيات ، فأكّدت الجملة الدّالة على انتفاع المؤمنين بتلك الدّلالة ، لأن الكلام موجّه للذين لم يهتدوا بتلك الدّلالة ، فهم بمنزلة من ينكر أن في ذلك دلالة للمؤمنين لأن المشركين ينظرون بمرآة أنفسهم .
وبين الإنكار عليهم عدم رؤيتهم تسخير الطير وبين إثبات رؤية المؤمنين لذلك محسّن الطباق . وبين نفي عدم رؤية المشركين وتأكيد إثبات رؤية المؤمنين لذلك محسّن الطباق أيضاً . وبين ضمير { يروا } وقوله : « قوم يؤمنون » التضادّ أيضاً ، فحصل الطباق ثلاث مرّات . وهذا أبلغ طباق جاء محوياً للبيان .
وجمع الآيات لأن في الطير دلائل مختلفة : من خلقة الهواء ، وخلقة أجساد الطير مناسبة للطيران في الهواء ، وخلق الإلهام للطير بأن يسبح في الجو ، وبأن لا يسقط إلى الأرض إلا بإرادته . وخصّت الآيات بالمؤمنين لأنهم بخلُق الإيمان قد ألفوا إعمال تفكيرهم في الاستدلال على حقائق الأشياء ، بخلاف أهل الكفر فإن خلق الكفر مطبوع على النفرة من الاقتداء بالنّاصحين وعلى مكابرة الحقّ .