قوله تعالى : { إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا } . قال قتادة والحسن : نزلت في اليهود كفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . وقال أبو العالية : نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما رأوه بعد إيمانهم بنعته وصفته قي كتبهم ( ثم ازدادوا كفراً ) يعني ذنوبا في حال كفرهم . قال مجاهد : نزلت في جميع الكفار أشركوا بعد إقرارهم بأن الله خالقهم ( ثم ازدادوا كفرا ) أي أقاموا على كفرهم حتى هلكوا عليه . قال الحسن ( ثم ازدادوا كفراً ) كلما نزلت آية كفروا بها ، فازدادوا كفراً وقيل : ( ثم ازدادوا كفراً ) بقولهم نتربص بمحمد ريب المنون . قال الكلبي : نزلت في الأحد عشر من أصحاب الحارث بن سويد ، لما رجع الحارث إلى الإسلام أقاموا هم على الكفر بمكة وقالوا : نقيم على الكفر ما بدا لنا ؟ فمتى أردنا الرجعة نزل فينا ما نزل في الحارث ، فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فمن دخل منهم في الإسلام قبلت توبته ، ونزل فيمن مات منهم كافراً : ( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار ) الآية .
فإن قيل : قد وعد الله قبول توبة من تاب فما معنى قوله :
قوله تعالى : { لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون } . قيل : لن تقبل توبتهم إذا رجعوا في حال المعاينة ، كما قال ( وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ) وقيل : هذا في أصحاب الحارث بن سويد حيث أعرضوا عن الإسلام ، وقالوا : نتربص بمحمد ريب المنون ، فإن ساعده الزمان نرجع إلى دينه ( لن تقبل توبتهم ) لن يقبل ذلك لأنهم متربصون غير محققين . ( وأولئك هم الضالون ) .
أما الذين لا يتوبون ولا يستغفرون ولا يتوبون إلى رشدهم ، بل يصرون على الكفر فيزدادون كفراً . والذين يرتكسون فى كفرهم وضلالهم حتى تفلت منهم الفرصة ، وينتهى أمد الاختبار ، ويأتي دور الجزاء ، فهؤلاء لا توبة لهم ولا نجاة ، فقد قال - تعالى - بعد هذه الآيات : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ . . . } .
قوله - تعالى - { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } .
قال قتادة وعطاء : نزلت فى اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم . بموسى والتوراة . ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن .
وقال أبو العالية والحسن : نزلت فى أهل الكتاب جميعا ، آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ثم كفروا به بعد مبعثه ، ثم ازدادوا كفرا بإصرارهم على ذلك ، وطعنهم فى نبوته فى كل وقت ، وعداوتهم له ، ونقضهم لعهودهم وصدهم الناس عن طريق الحق ، وسخريتهم بآيات الله .
ويمكن أن يقال : إن الآية الكريمة على عمومها فهى تتناول كل من آمن ثم ارتد عن الإيمان إلى الكفر ، وزداد كفرا بمقاومته للحق ، وإيذائه لأتباعه ، وإصراره على كفره وعناده وجحوده .
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبتهم فقال : { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأولئك هُمُ الضآلون } .
أى أن هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا وعنادا وجحودا للحق { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } أى لن تتوقع منهم توبة حتى تقبل ، لأنهم بإصرارهم على كفرهم ، ورسوخهم فيه ، وتلاعبهم بالإيمان ، قد صاروا غير أهل للتوفيق لها ، ولأنهم حتى لو تابوا فتوبتهم إنما هى بألسنتهم فحسب ، أما قلوبهم فمليئة بالكفر والنفاق ولذا تعتبر توبتهم كلا توبة .
وبعضهم حمل عدم قبول توبتهم على أنهم تابوا عند حضور الموت ، والتوبة في هذا الوقت لا قيمة لها .
قال القرطبى : وهذا قول حسن كما قال - تعالى - : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن } وبعضهم حمل عدم قبول توبتهم على أنهم ماتوا على الكفر ، وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقد قال . فإن قلت : قد علم أن المرتد كيفما ازداد كفرا فإنه مقبول التوبة إذا تاب فما معنى { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } ؟ قلت : جعلت عبارة عن الموت على الكفر ، لأن الذى لا تقبل توبته من الكفار هو الذى يموت على الكفر . كأنه قيل إن اليهود أو المرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر ، داخلون فى جملة من لا تقبل توبتهم .
فإن قلت : فأى فائدة فى هذه الكناية ؟ أعنى أن كنى الموت على الكفر بامتناع قبول التوبة ؟ .
قلت : الفائدة فيها جليلة وهى التغليظ فى شأن أولئك الفريق من الكفار ، وإبراز حالهم فى صورة حالة الآيسين من الرحمى التى هى أغلظ الأحوال وأشدها ألا ترى أن الموت على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة " .
والذى يبدو لنا أن الآية الكريمة أشد ما تكون انطباقا على أولئك الذين تتكرر منهم الردة من الإيمان إلى الكفر فهم لفساد قلوبهم ، وانطماس بصيرتهم واستيلاء الأهواء والمطامع على نفوسهم أصبح الإيمان لا استقرار له في قلوبهم بل يتلاعبون به ، ويبيعونه نظير عرض قليل من أعراض الدنيا ، وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى سورة النساء
{ إِنَّ الذين آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } وقوله { وأولئك هُمُ الضآلون } أى الكاملون في الضلال ، البعيدون عن طريق الحق ، المستحقون لسخط الله وعذابه .
فأما الذين لا يتوبون ولا يثوبون . الذين يصرون على الكفر ويزدادون كفرا . والذين يلجون في هذا الكفر حتى تفلت الفرصة المتاحة ، وينتهي أمد الاختبار ، ويأتي دور الجزاء . هؤلاء وهؤلاء لا توبة لهم ولا نجاة . ولن ينفعهم أن يكونوا قد أنفقوا ملء الأرض ذهبا فيما يظنون هم أنه خير وبر ، ما دام مقطوعا عن الصلة بالله . ومن ثم فهو غير موصول به ولا خالص له بطبيعة الحال . ولن ينجيهم أن يقدموا ملء الأرض ذهبا ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة . فقد أفلتت الفرصة وأغلقت الأبواب :
( إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون . إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به . أولئك لهم عذاب أليم . وما لهم من ناصرين ) . .
وهكذا يحسم السياق القضية بهذا التقرير المروع المفزع ، وبهذا التوكيد الواضح الذي لا يدع ريبة لمستريب .
{ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً لّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلََئِكَ هُمُ الضّآلّونَ }
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : عنى الله عزّ وجلّ بقوله : { إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا } أي ببعض أنبيائه الذين بعثوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم . { ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا } بكفرهم بمحمد . { لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } عند حضور الموت وحشرجته بنفسه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : { إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأُولَئِكَ هُمُ الضّالّونَ } قال : اليهود والنصارى لن تقبل توبتهم عند الموت .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا } أولئك أعداء الله اليهود ، كفروا بالإنجيل وبعيسى ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا } قال : ازدادوا كفرا حتى حضرهم الموت ، فلم تقبل توبتهم حين حضرهم الموت . قال معمر : وقال مثل ذلك عطاء الخراساني .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، قوله : { إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضّالّونَ } وقال : هم اليهود كفروا بالإنجيل ، ثم ازدادوا كفرا حين بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فأنكروه ، وكذّبوا به .
وقال آخرون : معنى ذلك : إن الذين كفروا من أهل الكتاب بمحمد بعد إيمانهم بأنبيائهم ، { ثمّ ازدَادُوا كُفْرا } : يعني ذنوبا ، { لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } من ذنوبهم ، وهم على الكفر مقيمون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن رفيع : { إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا } ازدادوا ذنوبا وهم كفار ، { فَلَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } من تلك الذنوب ما كانوا على كفرهم وضلالتهم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، قال : سألت أبا العالية ، قال : قلت : { إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } ؟ قال : إنما هم هؤلاء النصارى واليهود الذين كفروا ثم ازدادوا كفرا بذنوب أصابوها ، فهم يتوبون منها في كفرهم .
حدثنا عبد الحميد بن بيان اليشكري ، قال : أخبرنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، قال : سألت أبا العالية عن الذين آمنوا ثم كفروا ، فذكر نحوا منه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، قال : سألت أبا العالية عن هذه الاَية : { إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأُولَئِكَ هُمُ الضّالّونَ } قال : هم اليهود والنصارى والمجوس ، أصابوا ذنوبا في كفرهم فأرادوا أن يتوبوا منها ، ولن يتوبوا من الكفر ، ألا ترى أنه يقول : { وأُولَئِكَ هُمُ الضّالّونَ } ؟
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن داود ، عن أبي العالية في قوله : { لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } قال : تابوا من بعض ، ولم يتوبوا من الأصل .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي العالية ، قوله : { إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيْمَانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا } قال : هم اليهود والنصارى يصيبون الذنوب فيقولون نتوب وهم مشركون ، قال الله عزّ وجلّ : لن تقبل التوبة في الضلالة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن الذين كفروا بعد إيمانهم بأنبيائهم ، ثم ازدادوا كفرا ، يعني بزيادتهم الكفر : تمامهم عليه حتى هلكوا وهم عليه مقيمون ، لن تقبل توبتهم : لن تنفعهم توبتهم الأولى ، وإيمانهم لكفرهم الاَخر وموتهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قوله : { ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا } قال : تمّوا على كفرهم . قال ابن جريج : { لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } يقول : إيمانهم أوّل مرّة لن ينفعهم .
وقال آخرون : معنى قوله : { ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا } ماتوا كفارا ، فكان ذلك هو زيادتهم من كفرهم . وقالوا : معنى { لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } : لن تقبل توبتهم عند موتهم ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأُولَئِكَ هُمُ الضّالّونَ } أما ازدادوا كفرا : فماتوا وهم كفار ، وأما لن تقبل توبتهم : فعند موته إذا تاب لم تقبل توبته .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل هذه الاَية قول من قال : عنى بها اليهودَ ، وأن يكون تأويله : إن الذين كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مبعثه بعد إيمانهم به قبل مبعثه ، ثم ازدادوا كفرا بما أصابوا من الذنوب في كفرهم ومقامهم على ضلالتهم ، لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم ، حتى يتوبوا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويراجعوا التوبة منه بتصديق ما جاء به من عند الله .
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في هذه الاَية بالصواب ، لأن الاَيات قبلها وبعدها فيهم نزلت ، فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها إذ كانت في سياق واحد . وإنما قلنا : معنى ازديادهم الكفر ما أصابوا في كفرهم من المعاصي ، لأنه جلّ ثناؤه قال :
{ لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } فكان معلوما أن معنى قوله : { لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } إنما هو معنيّ به : لن تقبل توبتهم مما ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم ، لا من كفرهم ، لأن الله تعالى ذكره وعد أن يقبل التوبة من عباده ، فقال : { وَهُوَ الّذِي يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } فمحال أن يقول عزّ وجلّ أقبل ، ولا أقبل في شيء واحد . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان من حكم الله في عباده أنه قابل توبة كل تائب من كل ذنب ، وكان الكفر بعد الإيمان أحد تلك الذنوب التي وعد قبول التوبة منها بقوله : { إِلاّ الّذِينَ تَابُوا وأصْلَحُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } علم أن المعنى الذي لا تقبل التوبة منه ، غير المعنى الذي تقبل التوبة منه . وإذ كان ذلك كذلك ، فالذي لا تقبل منه التوبة هو الازدياد على الكفر بعد الكفر ، لا يقبل الله توبة صاحبه ما أقام على كفره ، لأن الله لا يقبل من مشرك عملاً ما أقام على شركه وضلاله ، فأما إن تاب من شركه وكفره وأصلح ، فإن الله كما وصف به نفسه ، غفور رحيم .
فإن قال قائل : وما ينكر أن يكون معنى ذلك ، كما قال من قال : فلن تقبل توبتهم من كفرهم عند حضور أجله ، أو توبته الأولى ؟ قيل : أنكرنا ذلك لأن التوبة من العبد غير كائنة إلا في حال حياته ، فأما بعد مماته فلا توبة ، وقد وعد الله عزّ وجلّ عباده قبول التوبة منهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، ولا خلاف بين جميع الحجة في أن كافرا لو أسلم قبل خروج نفسه بطرفة عين أن حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه والموارثة ، وسائر الأحكام غيرها ، فكان معلوما بذلك أن توبته في تلك الحال لو كانت غير مقبولة ، لم ينتقل حكمه من حكم الكفار إلى حكم أهل الإسلام ، ولا منزلة بين الموت والحياة يجوز أن يقال لا يقبل الله فيها توبة الكافر ، فإذا صحّ أنها في حال حياته مقبولة ، ولا سبيل بعد الممات إليها ، بطل قول الذي زعم أنها غير مقبولة عند حضور الأجل .
وأما قول من زعم أن معنى ذلك التوبة التي كانت قبل الكفر فقول لا معنى له ، لأن الله عزّ وجلّ لم يصف القوم بإيمان كان منهم بعد كفر ، ثم كفر بعد إيمان ، بل إنما وصفهم بكفر بعد إيمان ، فلم يتقدم ذلك الإيمان كفر كان للإيمان لهم توبة منه ، فيكون تأويل ذلك على ما تأوله قائل ذلك ، وتأويل القرآن على ما كان موجودا في ظاهر التلاوة إذا لم تكن حجة تدلّ على باطن خاصّ أولى من غيره وإن أمكن توجيهه إلى غيره .
وأما قوله : { وأُولَئِكَ هُمُ الضّالّونَ } فإنه يعني بذلك : وهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ، ثم ازدادوا كفرا ، هم الذين ضلوا سبيل الحقّ ، فأخطأوا منهجه ، وتركوا مَنْصَفَ السبيل وهدى الله الدين ، حيرةً منهم وعَمًى عنه . وقد بينا فيما مضى معنى الضلال بما فيه الكفاية .
{ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا } كاليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد الإيمان بموسى والتوراة ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد والقرآن ، أو كفروا بمحمد بعد ما آمنوا به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد والطعن فيه والصد عن الإيمان ونقض الميثاق ، أو كقوم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم ازدادوا كفرا بقولهم نتربص بمحمد ريب المنون أو نرجع إليه وننافقه بإظهاره . { لن تقبل توبتهم } لأنهم لا يتوبون ، أو لا يتوبون ، إلا إذا أشرفوا على الهلاك فكني عن عدم توبتهم بعدم قبولها تغليظا في شأنهم وإبرازا لحالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة ، أو لأن توبتهم لا تكون إلا نفاقا لارتدادهم وزيادة كفرهم ، ولذلك لم تدخل الفاء فيه . { وأولئك هم الضالون } الثابتون على الضلال .
قال قتادة ، وعطاء ، والحسن : نزلت هذه الآية في اليهود ، وعليه فالموصول بمعنى لام العهد ، فاليهود بعد أن آمنوا بموسى كفروا بعيسى وازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم
وقيل أريد به اليهود والنصارى : فاليهود كما علمتَ ، والنصارى آمنوا بعيسى ثم كفروا فعبدوه وألهوه ثم ازدادوا كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم
وتأويل { لن تقبل توبتهم } إما أنه كناية عن أنهم لا يتوبون فتقبَل توبتهم كقوله تعالى : { ولا يقبل منها شفاعة } [ البقرة : 48 ] أي لا شفاعة لها فتقبل وهذا كقول امرىء القيس
* على لاَ حب لا يُهتدَى بمناره *
أي لا منار له ، إذ قد علم من الأدلة أنّ التوبة مقبولة ودليله الحصر المقصود به المبالغة في قوله : { وأولئك هم الضالون } . وإمَّا أنّ الله نهى نبيه عن الاغترَار بما يظهرونه من الإسلام نفاقاً ، فالمراد بعدم القبول عدم تصديقهم في إيمانهم ، وإما الإخبار بأنّ الكفر قد رسخ في قلوبهم فصار لهم سجية لا يحولون عنها ، فإذا أظهروا التوبة فهم كاذبون ، فيكون عدم القبول بمعنى عدم الاطمئنان لهم ، وأسرارُهم موكولة إلى الله تعالى . وقد أسلم بعض اليهود قبل نزول الآية : مثل عبد الله بن سلام ، فلا إشكال فيه ، وأسلم بعضهم بعد نزول الآية .
وقيل المراد الذين ارتدّوا من المسلمين وماتوا على الكفر ، فالمراد بالازدياد الاستمرار وعدم الإقلاع . والقول في معنى لن تقبل توبتهم كما تقدم . وعليه يكون قوله : { إن الذين كفروا وماتوا } توكيداً لفظياً بالمرادف ، ولِيُبْنى عليه التفريع بقوله : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً } وأياماً كان فتأويل الآية مُتعين : لأنّ ظاهرها تعارضه الأدلة القاطعة على أنّ إسلام الكافر مقبول ، ولو تكرّر منه الكفر ، وأنّ توبة العُصاة مقبولة ، ولو وقع نقضها على أصح الأقوال وسيجيء مثل هذه الآية في سورة النساء ( 137 ) وهو قوله : { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن اللَّه ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً . }
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: عنى الله عزّ وجلّ بقوله: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا} أي ببعض أنبيائه الذين بعثوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم. {ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} بكفرهم بمحمد. {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} عند حضور الموت وحشرجته بنفسه...أولئك أعداء الله اليهود، كفروا بالإنجيل وبعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان.
وقال آخرون: معنى ذلك: إن الذين كفروا من أهل الكتاب بمحمد بعد إيمانهم بأنبيائهم، {ثمّ ازدَادُوا كُفْرا}: يعني ذنوبا، {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} من ذنوبهم، وهم على الكفر مقيمون. وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن الذين كفروا بعد إيمانهم بأنبيائهم، "ثم ازدادوا كفرا "بزيادتهم الكفر: تمامهم عليه حتى هلكوا وهم عليه مقيمون، "لن تقبل توبتهم": لن تنفعهم توبتهم الأولى، وإيمانهم لكفرهم الاَخر وموتهم. وقال آخرون: معنى قوله: {ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} ماتوا كفارا، فكان ذلك هو زيادتهم من كفرهم. وقالوا: معنى {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}: لن تقبل توبتهم عند موتهم.
وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل هذه الآية قول من قال: عنى بها اليهودَ، وأن يكون تأويله: إن الذين كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مبعثه بعد إيمانهم به قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفرا بما أصابوا من الذنوب في كفرهم ومقامهم على ضلالتهم، لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم، حتى يتوبوا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويراجعوا التوبة منه بتصديق ما جاء به من عند الله.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في هذه الآية بالصواب، لأن الآيات قبلها وبعدها فيهم نزلت، فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها إذ كانت في سياق واحد. وإنما قلنا: معنى ازديادهم الكفر ما أصابوا في كفرهم من المعاصي، لأنه جلّ ثناؤه قال: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}، فكان معلوما أن معنى قوله: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} إنما هو معنيّ به: لن تقبل توبتهم مما ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم، لا من كفرهم، لأن الله تعالى ذكره وعد أن يقبل التوبة من عباده، فقال: {وَهُوَ الّذِي يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} فمحال أن يقول عزّ وجلّ أقبل، ولا أقبل في شيء واحد. وإذ كان ذلك كذلك، وكان من حكم الله في عباده أنه قابل توبة كل تائب من كل ذنب، وكان الكفر بعد الإيمان أحد تلك الذنوب التي وعد قبول التوبة منها بقوله: {إِلاّ الّذِينَ تَابُوا وأصْلَحُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} علم أن المعنى الذي لا تقبل التوبة منه، غير المعنى الذي تقبل التوبة منه. وإذ كان ذلك كذلك، فالذي لا تقبل منه التوبة هو الازدياد على الكفر بعد الكفر، لا يقبل الله توبة صاحبه ما أقام على كفره، لأن الله لا يقبل من مشرك عملاً ما أقام على شركه وضلاله، فأما إن تاب من شركه وكفره وأصلح، فإن الله كما وصف به نفسه، غفور رحيم.
فإن قال قائل: وما ينكر أن يكون معنى ذلك، كما قال من قال: فلن تقبل توبتهم من كفرهم عند حضور أجله، أو توبته الأولى؟ قيل: أنكرنا ذلك لأن التوبة من العبد غير كائنة إلا في حال حياته، فأما بعد مماته فلا توبة، وقد وعد الله عزّ وجلّ عباده قبول التوبة منهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، ولا خلاف بين جميع الحجة في أن كافرا لو أسلم قبل خروج نفسه بطرفة عين أن حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه والموارثة، وسائر الأحكام غيرها، فكان معلوما بذلك أن توبته في تلك الحال لو كانت غير مقبولة، لم ينتقل حكمه من حكم الكفار إلى حكم أهل الإسلام، ولا منزلة بين الموت والحياة يجوز أن يقال لا يقبل الله فيها توبة الكافر، فإذا صحّ أنها في حال حياته مقبولة، ولا سبيل بعد الممات إليها، بطل قول الذي زعم أنها غير مقبولة عند حضور الأجل.
وأما قول من زعم أن معنى ذلك التوبة التي كانت قبل الكفر فقول لا معنى له، لأن الله عزّ وجلّ لم يصف القوم بإيمان كان منهم بعد كفر، ثم كفر بعد إيمان، بل إنما وصفهم بكفر بعد إيمان، فلم يتقدم ذلك الإيمان كفر كان للإيمان لهم توبة منه، فيكون تأويل ذلك على ما تأوله قائل ذلك، وتأويل القرآن على ما كان موجودا في ظاهر التلاوة إذا لم تكن حجة تدلّ على باطن خاصّ أولى من غيره وإن أمكن توجيهه إلى غيره.
{وأُولَئِكَ هُمُ الضّالّونَ}: وهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفرا، هم الذين ضلوا سبيل الحقّ، فأخطأوا منهجه، وتركوا مَنْصَفَ السبيل وهدى الله الدين، حيرةً منهم وعَمًى عنه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} هم اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد والقرآن. أو كفروا برسول الله بعدما كانوا به مؤمنين قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بإصرارهم على ذلك وطعنهم في كل وقت، وعداوتهم له، ونقضهم ميثاقه، وفتنتهم للمؤمنين، وصدهم عن الإيمان به، وسخريتهم بكل آية تنزل. وقيل: نزلت في الذين ارتدوا ولحقوا بمكة، وازديادهم الكفر أن قالوا: نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون، وإن أردنا الرجعة نافقنا بإظهار التوبة.
فإن قلت: قد علم أنّ المرتد كيفما ازداد كفرا فإنه مقبول التوبة إذا تاب فما معنى {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}؟ قلت: جعلت عبارة عن الموت على الكفر، لأنّ الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر، كأنه قيل: إن اليهود أو المرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر، داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم.
فإن قلت: فلم قيل في إحدى الآيتين {لَّن تُقْبَلَ} بغير فاء، وفي الأخرى {فَلَن يُقْبَلَ}؟ قلت: قد أوذن بالفاء أنّ الكلام بني على الشرط والجزاء.
فإن قلت: فحين كان المعنى {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} بمعنى الموت على الكفر، فهلا جعل الموت على الكفر مسبباً عن ارتدادهم وازديادهم الكفر لما في ذلك من قساوة القلوب وركوب الرين وجرّه إلى الموت على الكفر؟ قلت: لأنه كم من مرتد مزداد للكفر يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر.
فإن قلت: فأي فائدة في هذه الكناية، أعني أن كنى عن الموت على الكفر بامتناع قبول التوبة؟ قلت: الفائدة فيها جليلة، وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار، وإبراز حالهم في صورة حالة الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدّها، ألا ترى أنّ الموت على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة، وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر.
المسألة الأولى: اختلفوا فيما به يزداد الكفر، والضابط أن المرتد يكون فاعلا للزيادة بأن يقيم ويصر فيكون الإصرار كالزيادة، وقد يكون فاعلا للزيادة بأن يضم إلى ذلك الكفر كفرا آخر، وعلى هذا التقدير الثاني ذكروا فيه وجوها:
الأول: أن أهل الكتاب كانوا مؤمنين بمحمد عليه الصلاة والسلام قبل مبعثه، ثم كفروا به عند المبعث، ثم ازدادوا كفرا بسبب طعنهم فيه في كل وقت، ونقضهم ميثاقه، وفتنتهم للمؤمنين، وإنكارهم لكل معجزة تظهر.
الثاني: أن اليهود كانوا مؤمنين بموسى عليه السلام، ثم كفروا بسبب إنكارهم عيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفرا، بسبب إنكارهم محمدا عليه الصلاة والسلام والقرآن.
والثالث: أن الآية نزلت في الذين ارتدوا وذهبوا إلى مكة، وازديادهم الكفر أنهم قالوا: نقيم بمكة نتربص بمحمد صلى الله عليه وسلم ريب المنون.
الرابع: المراد: فرقة ارتدوا، ثم عزموا على الرجوع إلى الإسلام على سبيل النفاق، فسمى الله تعالى ذلك النفاق كفرا.
المسألة الثانية: أنه تعالى حكم في الآية الأولى بقبول توبة المرتدين، وحكم في هذه الآية بعدم قبولها وهو يوهم التناقض، وأيضا ثبت بالدليل أنه متى وجدت التوبة بشروطها فإنها تكون مقبولة لا محالة، فلهذا اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى: {لن تقبل توبتهم} على وجوه؛
الأول: قال الحسن وقتادة وعطاء: السبب أنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت والله تعالى يقول: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} [النساء: 18].
الثاني: أن يحمل هذا على ما إذا تابوا باللسان ولم يحصل في قلوبهم إخلاص.
الثالث: قال القاضي والقفال وابن الأنباري: أنه تعالى لما قدم ذكر من كفر بعد الإيمان، وبين أنه أهل اللعنة، إلا أن يتوب ذكر في هذه الآية أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإن التوبة الأولى تصير غير مقبولة وتصير كأنها لم تكن، قال وهذا الوجه أليق بالآية من سائر الوجوه لأن التقدير: إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم، فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم.
الرابع: قال صاحب «الكشاف»: قوله {لن تقبل توبتهم} جعل كناية عن الموت على الكفر، لأن الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر، كأنه قيل إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم.
الخامس: لعل المراد ما إذا تابوا عن تلك الزيادة فقط فإن التوبة عن تلك الزيادة لا تصير مقبولة ما لم تحصل التوبة عن الأصل. وأقول: جملة هذه الجوابات إنما تتمشى على ما إذا حملنا قوله {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا} على المعهود السابق لا على الاستغراق وإلا فكم من مرتد تاب عن ارتداده توبة صحيحة مقرونة بالإخلاص في زمان التكليف، فأما الجواب الذي حكيناه عن القفال والقاضي فهو جواب مطرد سواء حملنا اللفظ على المعهود السابق أو على الاستغراق.
{وأولئك هم الضالون} ففيه سؤالان: الأول: {وأولئك هم الضالون} ينفي كون غيرهم ضالا، وليس الأمر كذلك فإن كل كافر فهو ضال سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافرا في الأصل، والجواب: هذا محمول على أنهم هم الضالون على سبيل الكمال.
السؤال الثاني: وصفهم أولا بالتمادي على الكفر والغلو فيه والكفر أقبح أنواع الضلال والوصف إنما يراد للمبالغة، والمبالغة إنما تحصل بوصف الشيء بما هو أقوى حالا منه لا بما هو أضعف حالا منه والجواب: قد ذكرنا أن المراد أنهم هم الضالون على سبيل الكمال، وعلى هذا التقدير تحصل المبالغة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إن الذين كفروا بعد إيمانهم} وشهادتهم أن الرسول حق: {ثم ازدادوا كفرا} بمقاومة الحق وإيذاء الرسول والصد عن سبيل الله بالكيد والتشكيك وبالحرب والكفاح، أو الكلام على عمومه لا يختص بأولئك الذين سبق ذكرهم فازدياد الكفر عبارة عما ينميه ويقويه من الأعمال التي يقاوم بها الإيمان فالكفر يزداد قوة واستقرارا وتمكنا بالعمل بمقتضاه، كما أن الإيمان كذلك. وقوله: {لن تقبل توبتهم} يعدونه من المشكلات، إذ هو مخالف في الظاهر للآية السابقة ولمثل قوله: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} [الشورى: 25] فقال القاضي والقفال وابن الأنباري: إنه تعالى لما قدم ذكر من كفر وبين أنه أهل اللعنة إلا أن يتوب ذكر في هذه الآية أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإن التوبة الأولى تصير غير مقبولة حتى كأنها لم تكن. ويكون التقدير في الآية وما قبلها: إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم. فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم اه من التفسير الكبير بتصرف.
وفيه أن هذا الوجه أليق بالآية من كل الوجوه وإنه مطرد في الآية سواء حملت على العهود السابق أو على الاستغراق. وفي الكشاف أن عدم قبول توبتهم كناية عن موتهم على الكفر. وقال البيضاوي:"لن تقبل توبتهم" لأنهم لا يتوبون أو لا يتوبون إلا إذا أشرفوا على الهلاك فكنى عن عدم توبتهم بعدم قبولها تغليظا في شأنهم وإبراز حالهم في صورة الآيسين من الرحمة، أو لأن توتبتهم لا تكون إلا نفاقا لارتدادهم وزيادة كفرهم ولذلك لم يدخل الفاء فيه. اه.
واختار ابن جرير أن الكلام في أهل الكتاب الذين تقدم ذكرهم وأن المراد بالتوبة التوبة عن الذنوب فهي لا تنفعهم مع بقائهم على الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم. روى في الآية عدة روايات وقال عن هذا الذي قلنا إنه اختاره لأنه أولاها بالصواب... ثم بين ضعف سائر الروايات حتى رواية من قال إن المراد بذلك التوبة عند الموت وجزم (أي ابن جرير) بأن الكافر إذا أسلم قبل موته بطرفة عين فإن إيمانه يكون مقبولا وليس هذا محل الخوض في ذلك.
فأنت ترى أن هذه الأقوال وهي أظهر ما قيل في الآية منها ما يرجع إلى وقت التوبة ومنها ما يتعلق بالذنب الذي تيب عنه. وللأستاذ الإمام وجه يتعلق بصفة التوبة وكيفيتها. فقد ذكر في الدرس أن أولئك الكافرين الذين ازدادوا كفرا قد يحدث لهم في أنفسهم ألم من مقاومة الحق وقد يحملهم ذلك الألم على ترك بعض الذنوب والشرور، قال فهذا النوع من التوبة لا يقبل منهم ما لم يصلحوا أمرهم ويخلصوا لله في اتباع الحق ونصرته، فالتوبة التي يزعمونها على ما هم عليه من مقاومة المحقين لا يقبلها الله تعالى، يعني أنه قد يقع من هؤلاء نوع من التوبة لا يكون مطهرا لأنفسهم من جميع ما لصق بها من الكفر والأوزار وليس هذا عين قول من قال إن توبتهم هذه التي لا تقبل هي توبة في الظاهر دون الباطن وباللسان دون القلب فإن ذلك نفي للتوبة وهذا إثبات لها بل هو قريب من قول ابن جرير الذي هو اظهر الأقوال السابقة.
وقد يكون مراد الأستاذ الإمام أن النفوس قد توغل في الشر وتتمكن في الكفر حتى تحيط بها خطيئتها وتصل إلى ما عبر عنه القرآن بالرين والطبع والختم على القلوب. فإذا كان صاحب هذه النفس قد جحد الحق عنادا واستكبارا وضل على علم فلا يبعد ان يحدثه نفسه بالتوبة وأن يحاولها ولكن يكون له في نفسه من الموانع والحوائل دون قبولها للخير والحق ما يكون هو السبب لعدم قبولها فإن قبول التوبة المستلزم لمغفرة ذنب التائب ليس من قبيل العطاء الجزاف والأمر الأنف وإنما يكون بموافقة سنن الله في الفطرة الإنسانية ذلك ان من مقتضى الفطرة السليمة ان يحدث لها العلم بقبح الذنب وسوء عاقبته ألما يحملها على تركه ومحو أثره المدنس لها بعمل صالح يحدث فيها أثرا مضادا لذلك الأثر وبهذا تكون معدة صاحبها ومؤهلة له للمغفرة التي هي ترك العقوبة على الذنب المترتب على محو سببه وهو تدنيس النفس وتدسيتها: {قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها} [الشمس: 9] فإذا بلغت التدسية من بعضها مبلغا تتعذر معه التزكية على مريدها أو محاولها صح أن يعبر عن ذلك قبول توبة صاحب هذه النفس.
مثال ذلك الثوب الأبيض الناصع يصيبه لوث فيستقبح ذلك صاحبه فيغسله فينظف فإذا كان اللوث قليلا وبادر إلى غسله بعيد طروئه يرجى أن يزول حتى لا يبقى له أثر. ولكن هذا الثوب إذا دس في الأقذار سنين كثيرة حتى تخللت جميع خيوطه وتمكنت منها فاصطبغ بها صبغة جديدة ثابتة تعذر تنظيفه وإعادته إلى نصاعته الأولى. وبين هذه الدرجة وما قبلها درجات كثيرة. وقد أشير إلى الطرفين بقوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعلمون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما * وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما} [النساء: 17 18].
تلك حالة هذا الصنف من الهازئين بالدين المتقلبين في الكفر العريقين في الشر. ولذلك سجل عليهم الرسوخ في الضلال بصيغة القصر أو الحصر فقال: {وأولئك هم الضالون} المتمكنون من الضلال حتى كأنه محصور فيهم وحسبك بضال لا ترجى هدايته، ولا تقبل توبته، ونعوذ بالله من الخذلان.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى أن من كفر بعد إيمانه، ثم ازداد كفرا إلى كفره بتماديه في الغي والضلال، واستمراره على ترك الرشد والهدى، أنه لا تقبل توبتهم، أي: لا يوفقون لتوبة تقبل بل يمدهم الله في طغيانهم يعمهون، قال تعالى {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} فالسيئات ينتج بعضها بعضا، وخصوصا لمن أقدم على الكفر العظيم وترك الصراط المستقيم، وقد قامت عليه الحجة ووضح الله له الآيات والبراهين، فهذا هو الذي سعى في قطع أسباب رحمة ربه عنه، وهو الذي سد على نفسه باب التوبة، ولهذا حصر الضلال في هذا الصنف، فقال {وأولئك هم الضالون} وأي: ضلال أعظم من ضلال من ترك الطريق عن بصيرة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
[إنَّ الذين كفروا] باللّه ورسوله واليوم الآخر [بعد إيمانهم] الذي أعلنوه فدخلوا في المجتمع الإسلامي من خلاله رغبةً أو رهبةً، ثُمَّ خرجوا منه بعد أن حصلوا على ما يريدون، أو أمنوا مما يخافون منه، [ثُمَّ ازدادوا كفراً] من خلال العقدة الحاقدة في داخل نفوسهم، لا سيّما بعد أن دخلوا من جديد في مجتمع الشرك الذي أرادوا التكفير أمامه عن إيمانهم وإسلامهم، فعملوا على التشديد في كلماتهم القاسية ضدَّ الإسلام ومواقفهم العدوانية ضدَّه، [لن تقبل توبتهم] لأنَّ مثل هذا العمق العدواني، وهذا الانتقال السريع من الإيمان إلى الكفر الذي تطوّر إلى زيادة في مضمونه وحركته، يوحي بأنَّهم لا يملكون الجدية في إيمانهم، فلم يدخل إلى قلوبهم، بل كانت المسألة تمثيلية للوصول إلى أغراضهم الخبيثة، ما يعني أنَّ إيمانهم الجديد الذي تعبّر عنه التوبة لن يكون بأفضل من إيمانهم القديم الذي أعقبه الكفر، فهم اللاعبون على خطّ الكفر والإيمان، [وأولئك هم الضالون] التائهون في تمزقات مشاعرهم التي لا تثبت على قاعدة ولا تتحرّك في الاتجاه المستقيم...