اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرٗا لَّن تُقۡبَلَ تَوۡبَتُهُمۡ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلضَّآلُّونَ} (90)

قوله : " كفراً " تمييز منقول من الفاعلية ، والأصل : ثم ازداد كفرُهم ، والدال الأولى بدل من تاء الافتعال ؛ لوقوعها بعد الزاي ، كذا أعربه أبو حيان ، وفيه نظر ؛ إذ المعنى على أنه مفعول به ، وهي أن الفعل المتعدي لاثنين إذا جُعِل مطاوعاً نقص مفعولاً ، وهذا من ذاك ؛ لأن الأصل : زدت زيداً خيراً فازداده ، وكذلك أصل الآيةِ الكريمةِ : زادهم الله كُفراً فازدادوه ، فلم يؤت هنا بالفاء داخلةً على " لَنْ " وأتي بها في " لَنْ " الثانية ، لأن الفاءَ مُؤذِنَةً بالاستحقاق بالوصف السابق - لأنه قد صَرَّحَ بقَيْد مَوْتِهِم على الكُفْر ، بخلاف " لَن " الأولى ، فإنه لم يُصَرَّحْ معها به فلذلك لم يُؤتَ بالفاء .

قال ابن الخطيب : دخول الفاء يدل على أن الكلام مبني على الشرط والجزاء ، وعند " عدم " الفاء لم يفهم من الكلام كونه شرطاً وجزاء ، تقول : الذي جاءني له درهم ، فهذا لا يُفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء ، وذكر التاء يدل على أن عدم قبول الفدية معلل بالموت على الكفر .

وقرأ عكرمة " لن نَقْبَلَ " بنون العظمة ، ونصب " توبَتَهم " وكذلك قرأ{[5712]} " فلن نقبل من أحدهم ملء " بالنصب .

فصل

قال القرطبي : قال قتادة والحسن : نزلت هذه الآية في اليهود ، كفروا بعيسى عليه السلام ، والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم ، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن {[5713]} .

وقال أبو العالية : نزلت في اليهود والنصارى ، كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما رأوه بعد إيمانهم بنعته وصفته في كتبهم ، ثم ازدادوا كفراً يعني : ذنوباً ، يعني : في حال كفرهم {[5714]} .

وقال مجاهد : نزلت في جميع الكفار ؛ أشركوا بعد إقرارهم بأن الله تعالى خالقُهم ، ثم ازدادوا كُفْراً ، أي : أقاموا على كُفْرهم حتى هلكوا عليه .

وقيل : ازدادوا كُفْراً كلما نزلت آية كفروا بها ، فازدادوا كُفْراً .

وقيل : ازدادوا بقولهم : نتربص بمحمد ريب النون .

وقال الكلبي : نزلت في الأحد عشر أصحاب الحَرْث بن سُوَيْد ، لما رجع إلى الإسلام ، أقاموا هم على الكفر بمكة ، وقالوا : نقيم على الكفر ما بدا لنا ، فمتى أردنا الرجعة ينزل فينا ما نزل في الحَرْث ، فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكةَ ، فمن دخل منهم في الإسلام قُبِلَت توبته ، ونزلت فيمن مات منهم كافراً : { إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّار } [ البقرة : 161 ] الآية .

فإن قيل : قد وعد اللهُ بقبول توبة مَنْ تاب ، فما معنى قوله : " فلن تقبل توبتهم " ؟

قيل : لن تقبل توبتُهم إذا وقعوا في الحشرجة ، كما قال : { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن } [ النساء : 18 ] قاله الحسنُ وقتادة وعطاء .

وقيل : هذا مخصوص بأصحاب الحرث بن سُويد حين أمسكوا عن الإسلام ، وقالوا : نتربَّص بمحمد ، فإن ساعده الزمان نرجع إلى دينه ، لن يقبل ذلك منهم .

وقال القاضي والقفال وابنُ الأنباري : إنه - تعالى - لما قدَّم ذِكْر مَنْ كفر بعد الإيمان ، وبيَّن أنه أهل اللعنة إلا أن يتوب ، ذكر في هذه أنه لو كفر مرةً أخْرَى بعد تلك التوبة الأولى ، فإن تلك التوبة الأولى تعتبر غير مقبولة ، وتصير كأنها لم تكن .

قال : وهذا الوجه أليق بالآية من سائر الوجوه ، لأن تقدير الآية : إلا الَّذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ، فإن كانوا كذلك ، ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم .

وقال الزمخشري : قوله : " لن تقبل توبتهم " كناية عن الموت على الكفر ؛ لأن الذي لا تُقْبَل توبتُه من الكفار هو الذي يموت على الكفر ، كأنه قيل : إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا ، ميتون{[5715]} على الكفر داخلون في جملة من لا تُقْبَل توبتهم .

وقيل : لعلّ المراد ما إذا تابوا عن تلك الزيادة ، ولا تصير مقبولة ما لم تحصل التوبة عن الأصل .

قال ابن الخطيب : " وهذه الجوابات إنما تتمشى على ما إذا حملنا قوله : " إن الذين كفروا ثم ازدادوا كفراً " على المعهود السابق ، لا على الاستغراق ، وإلا فكم من مرتد تابَ عن ارتداده توبةً صحيحةً ، مقرونة بالإخلاص في زمان التكليف ، فأما جواب القفال والقاضي ، فهو جواب مطرد ، سواء حملنا اللفظ على المعهود السابق ، أو على الاستغراق " .

قوله : " وأولئك هم الضالون " في هذه الجملة ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون في محل رفع ؛ عَطْفاً على خبر " إنَّ " ، أي : إن الذين كفروا لن تُقْبَلَ توبتُهم ، وإنهم أولئك هم الضَّالُّون .

الثاني : أن تُجعل معطوفةً على الجملة المؤكَّدة ب " إنَّ " ، وحينئذ فلا محل لها من الإعراب ، لعَطْفِها على ما لا محل له .

الثالث : هو إعرابها بأن تكون الواو للحال ، فالجملة بعدها في محل نصب على الحال ، والمعنى : لن تقبل توبتهم من الذنوب ، والحال أنهم ضالُّون ، فالتوبة والضلال متنافيان ، لا يجتمعان ، قاله الراغب .

وهو بعيد في التركيب ، وإن كان قريب المعنى .

قال أبو حيان : " وينبو عن هذا المعنى هذا التركيب إذْ لو أريد هذا المعنى لم يُؤتَ باسم الإشارة " .

فإن قيل : قوله : " وأولئك هم الضالون " ظاهره ينفي عدم كون غيرهم ضالاً ، وليس الأمر كذلك ؛ بل كل كافر ضال ، سواء كفر بعد الإيمان ، أو كان كافراً في الأصل ، فالجواب : هذا محمول على أنهم هم الضالون على سبيل الكمال .

فإن قيل : إنه وصفهم - أولاً - بالكفر والغُلُوِّ فيه ، ثم وصفهم - ثانياً - بالضلال ، والكفر أقبح أنواع الضلالة ، والوصف إنما يراد للمبالغة ، والمبالغة إنما تحصل بوصف الشيء بما هو أقوى منه حالاً ، لا بما هو أضعف حالاً منه .

فالجواب : قد ذكرنا أن المراد منه : أنهم هم الضالُّون على سبيل الكمال ، وحينئذ تحصل المبالغة .


[5712]:انظر: الشواذ 21، والبحر المحيط 2/543، والدر المصون 2/163
[5713]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/578) عن الحسن وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/88).
[5714]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/579) عن أبي العالية وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/88). وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.
[5715]:في ب: ثابتون.