الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ ثُمَّ ٱزۡدَادُواْ كُفۡرٗا لَّن تُقۡبَلَ تَوۡبَتُهُمۡ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلضَّآلُّونَ} (90)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛

فقال بعضهم: عنى الله عزّ وجلّ بقوله: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا} أي ببعض أنبيائه الذين بعثوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم. {ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} بكفرهم بمحمد. {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} عند حضور الموت وحشرجته بنفسه...أولئك أعداء الله اليهود، كفروا بالإنجيل وبعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان.

وقال آخرون: معنى ذلك: إن الذين كفروا من أهل الكتاب بمحمد بعد إيمانهم بأنبيائهم، {ثمّ ازدَادُوا كُفْرا}: يعني ذنوبا، {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} من ذنوبهم، وهم على الكفر مقيمون. وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن الذين كفروا بعد إيمانهم بأنبيائهم، "ثم ازدادوا كفرا "بزيادتهم الكفر: تمامهم عليه حتى هلكوا وهم عليه مقيمون، "لن تقبل توبتهم": لن تنفعهم توبتهم الأولى، وإيمانهم لكفرهم الاَخر وموتهم. وقال آخرون: معنى قوله: {ثُمّ ازْدَادُوا كُفْرا} ماتوا كفارا، فكان ذلك هو زيادتهم من كفرهم. وقالوا: معنى {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}: لن تقبل توبتهم عند موتهم.

وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل هذه الآية قول من قال: عنى بها اليهودَ، وأن يكون تأويله: إن الذين كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مبعثه بعد إيمانهم به قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفرا بما أصابوا من الذنوب في كفرهم ومقامهم على ضلالتهم، لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم، حتى يتوبوا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويراجعوا التوبة منه بتصديق ما جاء به من عند الله.

وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في هذه الآية بالصواب، لأن الآيات قبلها وبعدها فيهم نزلت، فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها إذ كانت في سياق واحد. وإنما قلنا: معنى ازديادهم الكفر ما أصابوا في كفرهم من المعاصي، لأنه جلّ ثناؤه قال: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}، فكان معلوما أن معنى قوله: {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} إنما هو معنيّ به: لن تقبل توبتهم مما ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم، لا من كفرهم، لأن الله تعالى ذكره وعد أن يقبل التوبة من عباده، فقال: {وَهُوَ الّذِي يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} فمحال أن يقول عزّ وجلّ أقبل، ولا أقبل في شيء واحد. وإذ كان ذلك كذلك، وكان من حكم الله في عباده أنه قابل توبة كل تائب من كل ذنب، وكان الكفر بعد الإيمان أحد تلك الذنوب التي وعد قبول التوبة منها بقوله: {إِلاّ الّذِينَ تَابُوا وأصْلَحُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} علم أن المعنى الذي لا تقبل التوبة منه، غير المعنى الذي تقبل التوبة منه. وإذ كان ذلك كذلك، فالذي لا تقبل منه التوبة هو الازدياد على الكفر بعد الكفر، لا يقبل الله توبة صاحبه ما أقام على كفره، لأن الله لا يقبل من مشرك عملاً ما أقام على شركه وضلاله، فأما إن تاب من شركه وكفره وأصلح، فإن الله كما وصف به نفسه، غفور رحيم.

فإن قال قائل: وما ينكر أن يكون معنى ذلك، كما قال من قال: فلن تقبل توبتهم من كفرهم عند حضور أجله، أو توبته الأولى؟ قيل: أنكرنا ذلك لأن التوبة من العبد غير كائنة إلا في حال حياته، فأما بعد مماته فلا توبة، وقد وعد الله عزّ وجلّ عباده قبول التوبة منهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، ولا خلاف بين جميع الحجة في أن كافرا لو أسلم قبل خروج نفسه بطرفة عين أن حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه والموارثة، وسائر الأحكام غيرها، فكان معلوما بذلك أن توبته في تلك الحال لو كانت غير مقبولة، لم ينتقل حكمه من حكم الكفار إلى حكم أهل الإسلام، ولا منزلة بين الموت والحياة يجوز أن يقال لا يقبل الله فيها توبة الكافر، فإذا صحّ أنها في حال حياته مقبولة، ولا سبيل بعد الممات إليها، بطل قول الذي زعم أنها غير مقبولة عند حضور الأجل.

وأما قول من زعم أن معنى ذلك التوبة التي كانت قبل الكفر فقول لا معنى له، لأن الله عزّ وجلّ لم يصف القوم بإيمان كان منهم بعد كفر، ثم كفر بعد إيمان، بل إنما وصفهم بكفر بعد إيمان، فلم يتقدم ذلك الإيمان كفر كان للإيمان لهم توبة منه، فيكون تأويل ذلك على ما تأوله قائل ذلك، وتأويل القرآن على ما كان موجودا في ظاهر التلاوة إذا لم تكن حجة تدلّ على باطن خاصّ أولى من غيره وإن أمكن توجيهه إلى غيره.

{وأُولَئِكَ هُمُ الضّالّونَ}: وهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفرا، هم الذين ضلوا سبيل الحقّ، فأخطأوا منهجه، وتركوا مَنْصَفَ السبيل وهدى الله الدين، حيرةً منهم وعَمًى عنه.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} هم اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد والقرآن. أو كفروا برسول الله بعدما كانوا به مؤمنين قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بإصرارهم على ذلك وطعنهم في كل وقت، وعداوتهم له، ونقضهم ميثاقه، وفتنتهم للمؤمنين، وصدهم عن الإيمان به، وسخريتهم بكل آية تنزل. وقيل: نزلت في الذين ارتدوا ولحقوا بمكة، وازديادهم الكفر أن قالوا: نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون، وإن أردنا الرجعة نافقنا بإظهار التوبة.

فإن قلت: قد علم أنّ المرتد كيفما ازداد كفرا فإنه مقبول التوبة إذا تاب فما معنى {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}؟ قلت: جعلت عبارة عن الموت على الكفر، لأنّ الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر، كأنه قيل: إن اليهود أو المرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر، داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم.

فإن قلت: فلم قيل في إحدى الآيتين {لَّن تُقْبَلَ} بغير فاء، وفي الأخرى {فَلَن يُقْبَلَ}؟ قلت: قد أوذن بالفاء أنّ الكلام بني على الشرط والجزاء.

فإن قلت: فحين كان المعنى {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} بمعنى الموت على الكفر، فهلا جعل الموت على الكفر مسبباً عن ارتدادهم وازديادهم الكفر لما في ذلك من قساوة القلوب وركوب الرين وجرّه إلى الموت على الكفر؟ قلت: لأنه كم من مرتد مزداد للكفر يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر.

فإن قلت: فأي فائدة في هذه الكناية، أعني أن كنى عن الموت على الكفر بامتناع قبول التوبة؟ قلت: الفائدة فيها جليلة، وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار، وإبراز حالهم في صورة حالة الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدّها، ألا ترى أنّ الموت على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة، وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

في الآية مسألتان:

المسألة الأولى: اختلفوا فيما به يزداد الكفر، والضابط أن المرتد يكون فاعلا للزيادة بأن يقيم ويصر فيكون الإصرار كالزيادة، وقد يكون فاعلا للزيادة بأن يضم إلى ذلك الكفر كفرا آخر، وعلى هذا التقدير الثاني ذكروا فيه وجوها:

الأول: أن أهل الكتاب كانوا مؤمنين بمحمد عليه الصلاة والسلام قبل مبعثه، ثم كفروا به عند المبعث، ثم ازدادوا كفرا بسبب طعنهم فيه في كل وقت، ونقضهم ميثاقه، وفتنتهم للمؤمنين، وإنكارهم لكل معجزة تظهر.

الثاني: أن اليهود كانوا مؤمنين بموسى عليه السلام، ثم كفروا بسبب إنكارهم عيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفرا، بسبب إنكارهم محمدا عليه الصلاة والسلام والقرآن.

والثالث: أن الآية نزلت في الذين ارتدوا وذهبوا إلى مكة، وازديادهم الكفر أنهم قالوا: نقيم بمكة نتربص بمحمد صلى الله عليه وسلم ريب المنون.

الرابع: المراد: فرقة ارتدوا، ثم عزموا على الرجوع إلى الإسلام على سبيل النفاق، فسمى الله تعالى ذلك النفاق كفرا.

المسألة الثانية: أنه تعالى حكم في الآية الأولى بقبول توبة المرتدين، وحكم في هذه الآية بعدم قبولها وهو يوهم التناقض، وأيضا ثبت بالدليل أنه متى وجدت التوبة بشروطها فإنها تكون مقبولة لا محالة، فلهذا اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى: {لن تقبل توبتهم} على وجوه؛

الأول: قال الحسن وقتادة وعطاء: السبب أنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت والله تعالى يقول: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} [النساء: 18].

الثاني: أن يحمل هذا على ما إذا تابوا باللسان ولم يحصل في قلوبهم إخلاص.

الثالث: قال القاضي والقفال وابن الأنباري: أنه تعالى لما قدم ذكر من كفر بعد الإيمان، وبين أنه أهل اللعنة، إلا أن يتوب ذكر في هذه الآية أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإن التوبة الأولى تصير غير مقبولة وتصير كأنها لم تكن، قال وهذا الوجه أليق بالآية من سائر الوجوه لأن التقدير: إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم، فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم.

الرابع: قال صاحب «الكشاف»: قوله {لن تقبل توبتهم} جعل كناية عن الموت على الكفر، لأن الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر، كأنه قيل إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم.

الخامس: لعل المراد ما إذا تابوا عن تلك الزيادة فقط فإن التوبة عن تلك الزيادة لا تصير مقبولة ما لم تحصل التوبة عن الأصل. وأقول: جملة هذه الجوابات إنما تتمشى على ما إذا حملنا قوله {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا} على المعهود السابق لا على الاستغراق وإلا فكم من مرتد تاب عن ارتداده توبة صحيحة مقرونة بالإخلاص في زمان التكليف، فأما الجواب الذي حكيناه عن القفال والقاضي فهو جواب مطرد سواء حملنا اللفظ على المعهود السابق أو على الاستغراق.

{وأولئك هم الضالون} ففيه سؤالان: الأول: {وأولئك هم الضالون} ينفي كون غيرهم ضالا، وليس الأمر كذلك فإن كل كافر فهو ضال سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافرا في الأصل، والجواب: هذا محمول على أنهم هم الضالون على سبيل الكمال.

السؤال الثاني: وصفهم أولا بالتمادي على الكفر والغلو فيه والكفر أقبح أنواع الضلال والوصف إنما يراد للمبالغة، والمبالغة إنما تحصل بوصف الشيء بما هو أقوى حالا منه لا بما هو أضعف حالا منه والجواب: قد ذكرنا أن المراد أنهم هم الضالون على سبيل الكمال، وعلى هذا التقدير تحصل المبالغة.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{إن الذين كفروا بعد إيمانهم} وشهادتهم أن الرسول حق: {ثم ازدادوا كفرا} بمقاومة الحق وإيذاء الرسول والصد عن سبيل الله بالكيد والتشكيك وبالحرب والكفاح، أو الكلام على عمومه لا يختص بأولئك الذين سبق ذكرهم فازدياد الكفر عبارة عما ينميه ويقويه من الأعمال التي يقاوم بها الإيمان فالكفر يزداد قوة واستقرارا وتمكنا بالعمل بمقتضاه، كما أن الإيمان كذلك. وقوله: {لن تقبل توبتهم} يعدونه من المشكلات، إذ هو مخالف في الظاهر للآية السابقة ولمثل قوله: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} [الشورى: 25] فقال القاضي والقفال وابن الأنباري: إنه تعالى لما قدم ذكر من كفر وبين أنه أهل اللعنة إلا أن يتوب ذكر في هذه الآية أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإن التوبة الأولى تصير غير مقبولة حتى كأنها لم تكن. ويكون التقدير في الآية وما قبلها: إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم. فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم اه من التفسير الكبير بتصرف.

وفيه أن هذا الوجه أليق بالآية من كل الوجوه وإنه مطرد في الآية سواء حملت على العهود السابق أو على الاستغراق. وفي الكشاف أن عدم قبول توبتهم كناية عن موتهم على الكفر. وقال البيضاوي:"لن تقبل توبتهم" لأنهم لا يتوبون أو لا يتوبون إلا إذا أشرفوا على الهلاك فكنى عن عدم توبتهم بعدم قبولها تغليظا في شأنهم وإبراز حالهم في صورة الآيسين من الرحمة، أو لأن توتبتهم لا تكون إلا نفاقا لارتدادهم وزيادة كفرهم ولذلك لم يدخل الفاء فيه. اه.

واختار ابن جرير أن الكلام في أهل الكتاب الذين تقدم ذكرهم وأن المراد بالتوبة التوبة عن الذنوب فهي لا تنفعهم مع بقائهم على الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم. روى في الآية عدة روايات وقال عن هذا الذي قلنا إنه اختاره لأنه أولاها بالصواب... ثم بين ضعف سائر الروايات حتى رواية من قال إن المراد بذلك التوبة عند الموت وجزم (أي ابن جرير) بأن الكافر إذا أسلم قبل موته بطرفة عين فإن إيمانه يكون مقبولا وليس هذا محل الخوض في ذلك.

فأنت ترى أن هذه الأقوال وهي أظهر ما قيل في الآية منها ما يرجع إلى وقت التوبة ومنها ما يتعلق بالذنب الذي تيب عنه. وللأستاذ الإمام وجه يتعلق بصفة التوبة وكيفيتها. فقد ذكر في الدرس أن أولئك الكافرين الذين ازدادوا كفرا قد يحدث لهم في أنفسهم ألم من مقاومة الحق وقد يحملهم ذلك الألم على ترك بعض الذنوب والشرور، قال فهذا النوع من التوبة لا يقبل منهم ما لم يصلحوا أمرهم ويخلصوا لله في اتباع الحق ونصرته، فالتوبة التي يزعمونها على ما هم عليه من مقاومة المحقين لا يقبلها الله تعالى، يعني أنه قد يقع من هؤلاء نوع من التوبة لا يكون مطهرا لأنفسهم من جميع ما لصق بها من الكفر والأوزار وليس هذا عين قول من قال إن توبتهم هذه التي لا تقبل هي توبة في الظاهر دون الباطن وباللسان دون القلب فإن ذلك نفي للتوبة وهذا إثبات لها بل هو قريب من قول ابن جرير الذي هو اظهر الأقوال السابقة.

وقد يكون مراد الأستاذ الإمام أن النفوس قد توغل في الشر وتتمكن في الكفر حتى تحيط بها خطيئتها وتصل إلى ما عبر عنه القرآن بالرين والطبع والختم على القلوب. فإذا كان صاحب هذه النفس قد جحد الحق عنادا واستكبارا وضل على علم فلا يبعد ان يحدثه نفسه بالتوبة وأن يحاولها ولكن يكون له في نفسه من الموانع والحوائل دون قبولها للخير والحق ما يكون هو السبب لعدم قبولها فإن قبول التوبة المستلزم لمغفرة ذنب التائب ليس من قبيل العطاء الجزاف والأمر الأنف وإنما يكون بموافقة سنن الله في الفطرة الإنسانية ذلك ان من مقتضى الفطرة السليمة ان يحدث لها العلم بقبح الذنب وسوء عاقبته ألما يحملها على تركه ومحو أثره المدنس لها بعمل صالح يحدث فيها أثرا مضادا لذلك الأثر وبهذا تكون معدة صاحبها ومؤهلة له للمغفرة التي هي ترك العقوبة على الذنب المترتب على محو سببه وهو تدنيس النفس وتدسيتها: {قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها} [الشمس: 9] فإذا بلغت التدسية من بعضها مبلغا تتعذر معه التزكية على مريدها أو محاولها صح أن يعبر عن ذلك قبول توبة صاحب هذه النفس.

مثال ذلك الثوب الأبيض الناصع يصيبه لوث فيستقبح ذلك صاحبه فيغسله فينظف فإذا كان اللوث قليلا وبادر إلى غسله بعيد طروئه يرجى أن يزول حتى لا يبقى له أثر. ولكن هذا الثوب إذا دس في الأقذار سنين كثيرة حتى تخللت جميع خيوطه وتمكنت منها فاصطبغ بها صبغة جديدة ثابتة تعذر تنظيفه وإعادته إلى نصاعته الأولى. وبين هذه الدرجة وما قبلها درجات كثيرة. وقد أشير إلى الطرفين بقوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعلمون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما * وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما} [النساء: 17 18].

تلك حالة هذا الصنف من الهازئين بالدين المتقلبين في الكفر العريقين في الشر. ولذلك سجل عليهم الرسوخ في الضلال بصيغة القصر أو الحصر فقال: {وأولئك هم الضالون} المتمكنون من الضلال حتى كأنه محصور فيهم وحسبك بضال لا ترجى هدايته، ولا تقبل توبته، ونعوذ بالله من الخذلان.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

يخبر تعالى أن من كفر بعد إيمانه، ثم ازداد كفرا إلى كفره بتماديه في الغي والضلال، واستمراره على ترك الرشد والهدى، أنه لا تقبل توبتهم، أي: لا يوفقون لتوبة تقبل بل يمدهم الله في طغيانهم يعمهون، قال تعالى {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} فالسيئات ينتج بعضها بعضا، وخصوصا لمن أقدم على الكفر العظيم وترك الصراط المستقيم، وقد قامت عليه الحجة ووضح الله له الآيات والبراهين، فهذا هو الذي سعى في قطع أسباب رحمة ربه عنه، وهو الذي سد على نفسه باب التوبة، ولهذا حصر الضلال في هذا الصنف، فقال {وأولئك هم الضالون} وأي: ضلال أعظم من ضلال من ترك الطريق عن بصيرة...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

[إنَّ الذين كفروا] باللّه ورسوله واليوم الآخر [بعد إيمانهم] الذي أعلنوه فدخلوا في المجتمع الإسلامي من خلاله رغبةً أو رهبةً، ثُمَّ خرجوا منه بعد أن حصلوا على ما يريدون، أو أمنوا مما يخافون منه، [ثُمَّ ازدادوا كفراً] من خلال العقدة الحاقدة في داخل نفوسهم، لا سيّما بعد أن دخلوا من جديد في مجتمع الشرك الذي أرادوا التكفير أمامه عن إيمانهم وإسلامهم، فعملوا على التشديد في كلماتهم القاسية ضدَّ الإسلام ومواقفهم العدوانية ضدَّه، [لن تقبل توبتهم] لأنَّ مثل هذا العمق العدواني، وهذا الانتقال السريع من الإيمان إلى الكفر الذي تطوّر إلى زيادة في مضمونه وحركته، يوحي بأنَّهم لا يملكون الجدية في إيمانهم، فلم يدخل إلى قلوبهم، بل كانت المسألة تمثيلية للوصول إلى أغراضهم الخبيثة، ما يعني أنَّ إيمانهم الجديد الذي تعبّر عنه التوبة لن يكون بأفضل من إيمانهم القديم الذي أعقبه الكفر، فهم اللاعبون على خطّ الكفر والإيمان، [وأولئك هم الضالون] التائهون في تمزقات مشاعرهم التي لا تثبت على قاعدة ولا تتحرّك في الاتجاه المستقيم...