قوله تعالى : { بل } يعني : دع ذلك الذي قالوا فإنه كذب وباطل ، { نقذف } نرمي ونسلط ، { بالحق } بالإيمان ، { على الباطل } على الكفر وقيل : الحق قول الله ، فإنه لا ولد له ، والباطل قولهم اتخذ الله ولداً ، { فيدمغه } يعني : يهلكه ، وأصل الدمغ : شج الرأس حتى يبلغ الدماغ ، { فإذا هو زاهق } ذاهب ، والمعنى : أنا نبطل كذبهم بما نبين من الحق حتى يضمحل ويذهب ، ثم أوعدهم على كذبهم فقال : { ولكم الويل } يا معشر الكفار ، { مما تصفون } الله بما لا يليق به من الصاحبة والولد . وقال مجاهد : مما تكذبون .
وقوله - سبحانه - : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } إضراب عن إرادة اتخاذ اللهو ، وإثبات لما تقتضيه ذاته - تعالى - مما يخالف ذلك .
والقذف : الرمى بسرعة . والاسم القذاف - ككتاب - ، وهو سرعة السير ، ومنه قولهم : ناقة قذاف - بكسر القاف - إذا كانت متقدمة على غيرها فى السير .
ويدمغه : أى ، يمحقه ويزيله ، قال القرطبى : وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ .
أى : ليس من شأننا أن نتخذ لهوا ، وإنما الذى من شأننا وحكمتنا ، أن نلقى بالحق الذى أرسلنا به رسلنا ، على الباطل الذى تشبث به الفاسقون { فَيَدْمَغُهُ } أى : فيقهره ويهلكه ويزيله إزالة تامة .
والتعبير القرآنى البليغ ، يرسم هذه السنة الإلهية فى صورة حسية متحركة حتى لكأنما الحق قذيفة تنطلق بسرعة فتهوى على الباطل فتشق أم رأسه ، فإذا هو زاهق زائل .
قال الآلوسى : وفى إذا الفجائية ، والجملة الإسمية ، من الدلالة على كمال المسارعة فى الذهاب والبطلان مالا يخفى ، فكأنه زاهق من الأصل .
وقوله - تعالى - : { وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ } وعيد شديد لأولئك الكافرين الذين نسبوا إلى الله - تعالى - مالا يليق به ، ووصفوه بأن له صاحبة وولدا { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } أى : ولكم - أيها الضالون المكذبون - الويل والهلاك ، من أجل وصفكم له - تعالى - بما لا يليق بشأنه الجليل .
إنما الناموس المقرر والسنة المطردة ألا يكون هناك لهو ، إنما يكون هناك جد ، ويكون هناك حق ، فيغلب الحق الأصيل على الباطل العارض :
( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) . .
و( بل )للإضراب عن الحديث في موضوع اللهو ؛ والعدول عنه إلى الحديث في الواقع المقرر الذي تجري به السنة ويقتضيه الناموس . وهو غلبة الحق وزهوق الباطل .
والتعبير يرسم هذه السنة في صورة حسية حية متحركة . فكأنما الحق قذيفة في يد القدرة . تقذف به على الباطل ، فيشق دماغه ! فإذا هو زاهق هالك ذاهب . .
هذه هي السنة المقررة ، فالحق أصيل في طبيعة الكون ، عميق في تكوين الوجود . والباطل منفي عن خلقة هذا الكون أصلا ، طاريء لا أصالة فيه ، ولا سلطان له ، يطارده الله ، ويقذف عليه بالحق فيدمغه . ولا بقاء لشيء يطارده الله ؛ ولا حياة لشيء تقذفه يد الله فتدمغه !
ولقد يخيل للناس أحيانا أن واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم الخبير . وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشا كأنه غالب ، ويبدو فيها الحق منزويا كأنه مغلوب . وإن هي إلا فترة من الزمان ، يمد الله فيها ما يشاء ، للفتنة والابتلاء . ثم تجري السنة الأزلية الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض ؛ وقامت عليها العقائد والدعوات سواء بسواء .
والمؤمنون بالله لا يخالجهم الشك في صدق وعده ؛ وفي أصالة الحق في بناء الوجود ونظامه ؛ وفي نصرة الحق الذي يقذف به على الباطل فيدمغه . . فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حينا من الدهر عرفوا أنها الفتنة ؛ وأدركوا أنه الابتلاء ؛ وأحسوا أن ربهم يربيهم ، لأن فيهم ضعفا أو نقصا ؛ وهو يريد أن يعدهم لاستقبال الحق المنتصر ، وأن يجعلهم ستار القدرة ، فيدعهم يجتازون فترة البلاء يستكملون فيها النقص ويعالجون فيها الضعف . . وكلما سارعوا إلى العلاج قصر الله عليهم فترة الابتلاء ، وحقق على أيديهم ما يشاء . أما العاقبة فهي مقررة : ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق )والله يفعل ما يريد .
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولكن ننزل الحقّ من عندنا ، وهو كتاب الله وتنزيله على الكفر به وأهله ، فيَدْمَغُهُ يقول : فيهلكه كما يدمغ الرجل الرجل بأن يشجّه على رأسه شجة تبلغ الدماغ ، وإذا بلغت الشجة ذلك من المشجوج لم يكن له بعدها حياة .
وقوله فإذَا هُوَ زَاهِقٌ يقول : فإذا هو هالك مضمحلّ كما :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : فإذَا هَوَ زَاهِقٌ قال : هالك .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فإذَا هُوَ زَاهِقٌ قال : ذاهب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : بَلْ نَقْذِفُ بالحَقّ عَلى الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فإذَا هُوَ زَاهِقٌ والحقّ كتاب الله القرآن ، والباطل : إبليس ، فَيدْمَغُهُ فإذَا هُوَ زَاهِقٌ أي ذاهب .
وقوله : وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ يقول : ولكم الويل من وصفكم ربكم بغير صفته ، وقِيلكم إنه اتخذ زوجة وولدا ، وفِريتكم عليه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، إلا أن بعضهم قال : معنى تصفون تكذبون . وقال آخرون : معنى ذلك : تشركون . وذلك وإن اختلفت به الألفاظ فمتفقة معانيه لأن من وصف الله بأن له صاحبة فقد كذب في وصفه إياه بذلك ، وأشرك به ، ووصفه بغير صفته . غير أن أولى العبارات أن يُعَبر بها عن معاني القرآن أقربها إلى فهم سامعيه . ذكر من قال ما قلنا في ذلك :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلَكُمْ الوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ أي تكذبون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمّا تَصِفونَ قال : تشركون وقوله عَمّا يَصِفُونَ قال : يشركون قال : وقال مجاهد : سيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ قال : قولَهم الكذب في ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.