معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُجَٰدِلُونَ فِيٓ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ سُلۡطَٰنٍ أَتَىٰهُمۡ إِن فِي صُدُورِهِمۡ إِلَّا كِبۡرٞ مَّا هُم بِبَٰلِغِيهِۚ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (56)

قوله تعالى :{ إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم } ما في قلوبهم ، والصدر موضع القلب ، فكنى به عن القلب لقرب الجوار ، { إلا كبر } قال ابن عباس : ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر والعظمة ، { ما هم ببالغيه } قال مجاهد : ما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر ، لأن الله عز وجل مذلهم . قال ابن قتيبة : إن في صدورهم إلا تكبر على محمد صلى الله عليه وسلم ، وطمع في أن يغلبوه وما هم ببالغي ذلك . قال أهل التفسير : نزلت في اليهود ، وذلك أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن صاحبنا المسيح بن داود يعنون الدجال يخرج في آخر الزمان ، فيبلغ سلطانه في البر والبحر ، ويرد الملك إلينا ، قال الله تعالى : { فاستعذ بالله } من فتنة الدجال . { إنه هو السميع البصير* }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُجَٰدِلُونَ فِيٓ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ سُلۡطَٰنٍ أَتَىٰهُمۡ إِن فِي صُدُورِهِمۡ إِلَّا كِبۡرٞ مَّا هُم بِبَٰلِغِيهِۚ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (56)

ثم تعود السورة الكريمة مرة أخرى إلى توبيخ الذين يجادلون فى آيات الله بغير حجة أو برهان ، وتبين الأسباب التى حملتهم على ذلك ، وترشد إلى العلاج من شرورهم ، وتنفى المساواة بين الكافر والمؤمن ، وتدعو المؤمنين إلى الإكثار من التضرع إلى الله - تعالى - فتقول :

{ إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ . . . } .

المراد بالمجادلة فى قوله - تعالى - : { إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ . . . } المجادلة بالباطل بدون حجة أو دليل ، أما المجادلة لإِحقاق الحق والكشف عنه . . فهى محمودة ، لأنها تهدى إلى الخير والصلاح . .

قال صاحب الكشاف : فأما الجدال فى آيات الله ، لإيضاح ملتبسها ، وحل مشكلها ومقادحة أهل العلم فى استنباط معانيها ورد أهل الزيغ عنها ، فأعظم جهاد فى سبيل الله .

وجملة { إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ } خبر إن ، والكبر بمعنى التكبر والتعالى والتعاظم على الغير .

والمعنى : إن الذين يجادلون فى آيات الله - تعالى - الدالة على وحدانيته وصدق رسله ، وليس عندهم دليل أو برهان على صحة دعواهم . .

هؤلاء المجادلون بالباطل ما حملهم على ذلك إلا التكبر والتعاظم والتطلع إلى الرياسة وإلى أن تكون النبوة فيهم أو فيمن يميلون إليهم . . وهم جميعا لن يصصلوا إلى شئ من ذلك ، ولن يبلغوا ما تتوق إليه نفوسهم المريضة ، لأن العطاء والمنع بيد الله - تعالى - وحده .

وصدق الله إذ يقول : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ العزيز الحكيم } فالآية الكريمة تبين أن على رأس الأسباب التى حملت هؤلاء المجادلين بالباطل على جدالهم . هو حبهم للتكبر والتعالى . .

قال الآلوسى : قوله : { بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ . . } أى : بغير حجة فى ذلك أتتهم من جهته - تعالى - وتقييد المجادلة بذلك مع استحالة إتيان الحجة ، للإِيذان بأن المتكلم فى أمر الدين ، لابد من استناده إلى حجة واضحة وبرهان مبين ، وهذا عام فى كل مجادل مبطل . .

وقوله : { مَّا هُم بِبَالِغِيهِ } صفة لقوله { كِبْرٌ } أى ما هم ببالغى موجب الكبر ومقتضيه ، وهو متعلق إرادتهم من دفع الآيات أو من الرياسة أو النبوة . .

وقوله - سبحانه - : { فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع البصير } إرشاد منه - تعالى - إلى ما يقى من شرور هؤلاء المجادلين بالباطل .

أى : هذا هو حال المجادلين بالباطل وهذا هو الدافع إلى جدالهم ، وما دام هذا هو حالهم ، فالتجئ إلى الله - تعالى - أيها الرسول الكريم - لكى يحفظك من شرورهم وكيدهم ، نه - تعالى - هو السميع لكل شئ ، البصير بما ظهر وخفى من شئون عباده .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُجَٰدِلُونَ فِيٓ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ سُلۡطَٰنٍ أَتَىٰهُمۡ إِن فِي صُدُورِهِمۡ إِلَّا كِبۡرٞ مَّا هُم بِبَٰلِغِيهِۚ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (56)

56

( إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم ، إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه . فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير . لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . وما يستوي الأعمى والبصير ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء ، قليلاً ما تتذكرون . إن الساعة لآتية لا ريب فيها ، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون . وقال ربكم : ادعوني أستجب لكم ، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) . .

إن هذا المخلوق الإنساني لينسى نفسه في أحيان كثيرة ، ينسى أنه كائن صغير ضعيف ، يستمد القوة لا من ذاته ، ولكن من اتصاله بمصدر القوة الأول . من الله . فيقطع اتصاله هذا ثم يروح ينتفخ ، ويورم ، ويتشامخ ، ويتعالى . يحيك في صدره الكبر . يستمده من الشيطان الذي هلك بهذا الكبر . ثم سلط على الإنسان فأتاه من قبله !

وإنه ليجادل في آيات الله ويكابر . وهي ظاهرة ناطقة معبرة للفطرة بلسان الفطرة . وهو يزعم لنفسه وللناس أنه إنما يناقش لأنه لم يقتنع ، ويجادل لأنه غير مستيقن . والله العليم بعباده ، السميع البصير المطلع على السرائر ، يقرر أنه الكبر . والكبر وحده . هو الذي يحيك في الصدر . وهو الذي يدعو صاحبه إلى الجدال فيما لا جدال فيه . الكبر والتطاول إلى ما هو أكبر من حقيقته . ومحاولة أخذ مكان ليس له ، ولا تؤهله له حقيقته . وليست له حجة يجادل بها ، ولا برهان يصدع به . إنما هو ذلك الكبر وحده :

( إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم ، إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ) . .

ولو أدرك الإنسان حقيقته وحقيقة هذا الوجود . ولو عرف دوره فأتقنه ولم يحاول أن يتجاوزه . ولو اطمأن إلى أنه كائن مما لا يحصى عدده من كائنات مسخرة بأمر خالق الوجود ، وفق تقديره الذي لا يعلمه إلا هو ، وأن دوره مقدر بحسب حقيقته في كيان هذا الوجود . . لو أدرك هذا كله لاطمأن واستراح ، ولتطامن كذلك وتواضع ، وعاش في سلام مع نفسه ومع الكون حوله . وفي استسلام لله وإسلام .

( فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير ) . .

والاستعاذة بالله في مواجهة الكبر توحي باستبشاعه واستفظاعه . فالإنسان إنما يستعيذ بالله من الشيء الفظيع القبيح ، الذي يتوقع منه الشر والأذى . . وفي الكبر هذا كله . وهو يتعب صاحبه ويتعب الناس من حوله ؛ وهو يؤذي الصدر الذي يحيك فيه ويؤذي صدور الآخرين . فهو شر يستحق الاستعاذة بالله منه . . ( إنه هو السميع البصير ) . . الذي يسمع ويرى ، والكبر الذميم يتمثل في حركة ترى وفي كلام يسمع . فهو يكل أمره إلى السميع البصير يتولاه بما يراه .