والفاء فى قوله - تعالى - : { فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } للإِفصاح . أى : إذا كان حال هؤلاء المشركين كما ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم من الجهالة والغفلة ، فأعرض عنهم ، ولا تحزن عليهم ، ولا تبال بأقوالهم .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } تعليل للنهى عن الحزن بسبب أقوالهم . أى لا تحزن - أيها الرسول الكريم - بسبب أقوالهم الباطلة ، فإنا نعلم علماً تاماً ما يسرونه من حقد عليك ، وما يعلنونه من أعمال قبيحة ، وسنعاقبهم على كل ذلك العقاب الذى يستحقونه .
فالآية الكريمة تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما كان يلقاه من هؤلاء المشركين .
وقوله تعالى : فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فلاَ يحْزُنْك يا محمد قول هؤلاء المشركين بالله من قومك لك : إنك شاعر ، وما جئتنا به شعر ، ولا تكذيبهم بآيات الله وجحودهم نبوّتك . وقوله : إنّا نَعْلَمُ ما يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ يقول تعالى ذكره : إنا نعلم أن الذي يدعوهم إلى قيل ذلك الحسد ، وهم يعلمون أن الذي جئتهم به ليس بشعر ، ولا يشبه الشعر ، وأنك لست بكذّاب ، فنعلم ما يسرّون من معرفتهم بحقيقة ما تدعوهم إليه ، وما يعلنون من جحودهم ذلك بألسنتهم علانية .
{ فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } .
فرّع على قوله : { واتَّخذوا من دُوننِ الله ءَالِهَةً } [ يس : 74 ] صرفُ أن تحزن أقوالهم النبي صلى الله عليه وسلم أي تحذيره من أن يحزِن لأقوالهم فيه فإنهم قالوا في شأن الله ما هو أفظع .
و { قولهم } من إضافة اسم الجنس فيعم ، أي فلا تحزنك أقوالهم في الإِشراك وإنكار البعث والتكذيب والأذى للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، ولذلك حذف المقول ، أي لا يحزنك قولهم الذي من شأنه أن يحزنك .
والنهي عن الحزن نهي عن سببه وهو اشتغال بال الرسول بإعراضهم عن قبول الدين الحق ، وهو يستلزم الأمر بالأسباب الصارفة للحزن عن نفسه من التسلّي بعناية الله تعالى وعقابه من ناووه وعادوه .
{ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وما يعلنون } .
والخبر كناية عن مؤاخذتهم بما يقولون ، أي إنا محصون عليهم أقوالهم وما تسرّه أنفسهم مما لا يجهرون به فنؤاخذهم بذلك كله بما يكافئه من عقابهم ونصرِك عليهم ونحو ذلك . وفي قوله : { ما يُسِرُّونَ وما يُعلنون } تعميم لجعل التعليل تذييلاً أيضاً .
و« إنّ » مغنية عن فاء التسبب في مقام ورودها لمجرد الاهتمام بالتأكيد المخبر بالجملة ليست مستأنفة ولكنها مترتبة .
وقرأ نافع { يُحزِنكَ } بضم الياء وكسر الزاي من أحزنه إذا أدخل عليه حزناً . وقرأه الباقون بفتح الياء وضم الزاي من حَزَنه بفتح الزاي بمعنى أحزنه وهما بمعنى واحد .
وقدم الإِسرار للاهتمام به لأنه أشدّ دلالة على إحاطة علم الله بأحوالهم ، وذكر بعده الإِعلان لأنه محل الخبر ، وللدلالة على استيعاب علم الله تعالى بجزئيات الأمور وكلياتها .
والوقف عند قوله : { ولا يحزنك قولهم } مع الابتداء بقوله : { إنَّا نعلم } أَحسنُ من الوصل لأنه أوضح للمعنى ، وليس بمتعيّن إذ لا يخطر ببال سامع أنهم يقولون : إن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ، ولو قالوه لما كان مما يحزن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف ينهى عن الحزن منه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنا نعلم ما يسرون} من التكذيب.
{وما يعلنون} يظهرون من القول بألسنتهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله تعالى:"فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فلاَ يحْزُنْك يا محمد قول هؤلاء المشركين بالله من قومك لك: إنك شاعر، وما جئتنا به شعر، ولا تكذيبهم بآيات الله وجحودهم نبوّتك. وقوله: "إنّا نَعْلَمُ ما يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ "يقول تعالى ذكره: إنا نعلم أن الذي يدعوهم إلى قيل ذلك الحسد، وهم يعلمون أن الذي جئتهم به ليس بشعر، ولا يشبه الشعر، وأنك لست بكذّاب، فنعلم ما يسرّون من معرفتهم بحقيقة ما تدعوهم إليه، وما يعلنون من جحودهم ذلك بألسنتهم علانية.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرّون وما يُعلنون} كان من أولئك الكفرة لرسول الله أقوال مختلفة، مرة كان منهم ما ذكروا: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك} الآية [الأنفال: 30] ومرة قالوا: إنه ساحر وإنه كذاب وإنه شاعر، ومرة قالوا: {لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان: 32] ومرة قالوا: {لولا أُنزل إليه مَلك فيكون معه نذيرا} [الفرقان: 7] ومرة طعنوا فيه وفي ما أقام من الحجج.
ولا ندري أي قول كان منهم له؟ فيحزن عليه، حتى قال: {فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرّون وما يعلنون} أي لا تحزن على قولهم فإنا نعلم ما يسرون وما يعلنون، فنحفظ عليهم ذلك، ونكافئهم على ذلك، أو نعلم ما يسرّون وما يعلنون، فننصرك عليهم، ونعينك.
ويحتمل أن يكون حزنه عليهم إشفاقا عليهم لما كان يعلم نزول العذاب بهم والهلاك لعنادهم ومكابرتهم، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذا خطاب من الله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) على وجه التسلية له عن تكذيب قومه إياه، فقال:"فلا يحزنك قولهم" وضم الياء نافع، وحزن وأحزن لغتان. والحزن: ألم القلب بما يرد عليه مما ينافي الطبع، ومثله الغم، وضده السرور والفرح، والمعني في صرف الحزن عن النبي (صلى الله عليه وآله) في كفر قومه هو أن ضرر كفرهم عائد عليهم، لأنهم يعاقبون به دون غيرهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا عَلِمَ العبدُ أنّه بمرأى من الحقّ هَانَ عليه ما يقاسيه، ولا سيما إذا كان في الله.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أنس تعالى نبيه، بقوله {فلا يحزنك قولهم} وتوعد الكفار بقوله {إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون}.
{فلا يحزنك قولهم} إشارة إلى الرسالة؛ لأن الخطاب معه بما يوجب تسلية قلبه، دليل اجتبائه واختياره إياه.
{إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون} يحتمل وجوها أحدها: أن يكون ذلك تهديدا للمنافقين والكافرين فقوله: {ما يسرون} من النفاق {وما يعلنون} من الشرك.
الثالث: ما يسرون من العقائد الفاسدة وما يعلنون من الأفعال القبيحة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين ما بين من قدرته الباهرة وعظمته الظاهرة، و وهي أمرهم في الدنيا والآخرة، وكان قد تقدم ما لوح إلى أنهم نسبوه صلى الله عليه وسلم إلى الشعر، وصرح باستهزائهم بالوعد مع ما قبل ذلك من تكذيبهم وإجابتهم للمؤمنين من تسفيههم وتضليلهم، سبب عن ذلك بعد، ما نفى عنهم النصرة، قوله تسلية له صلى الله عليه وسلم: {فلا يحزنك} قراءة الجماعة بفتح الياء وضم الزاي، ومعناه: يجعل فيك، وقراءة نافع بضم الياء وكسر الزاي تدل على أن المنهي عنه إنما هو كثرة الحزن والاستغراق فيه لا ما يعرض من طبع البشر من أصله، فإن معنى أحزن فلاناً كذا، أي جعله حزيناً.
{قولهم} أي الذي قدمناه تلويحاً وتصريحاً وغير ذلك فيك وفينا.
ولما كان علم القادر بما يعمل عدوه سبباً لأخذه؛ علل ذلك بقوله مهدداً بمظهر العظمة: {إنا نعلم ما} أي كل ما.
{وما يعلنون} أي فنحن نجعل ما يسببونه لأذاك سبباً لأذاهم ونفعك إلى أن يصيروا في قبضتك وتحت قهرك وقدرتك.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
إنَّ الفاء في قوله تعالى {فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} لترتيب النَّهيِ على ما قبله، فلابُدَّ أنْ يكونَ عبارةً عن خسرانِهم وحرمانِهم عمَّا علَّقوا به أطماعَهم الفارغةَ، وانعكاسُ الأمرِ عليهم بترتب الشَّرِّ على ما رتَّبوه لرجاءِ الخير، فإن ذلك مما يُهوِّن الخطبَ ويورث السَّلوةَ، وأما كونُهم معدِّين لخدمتِهم وحفظِهم فبمعزلٍ من ذلكَ، والنَّهيُ وإنْ كان بحسبِ الظَّاهرِ متوجِّهاً إلى قولهم، لكنه في الحقيقة متوجّهٌ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ونهيٌ له عليه السَّلامُ عن التَّأثرِ منه بطريقِ الكنايةِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه.
{إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} تعليلٌ صريحٌ للنَّهي بطريقِ الاستئنافِ بعد تعليلهِ بطريقِ الإشعارِ؛ فإنَّ العلمَ بما ذُكر مستلزمٌ للمجازاةِ قطعاً أي إنَّا نجازيهم بجميعِ جناياتهم الخافيةِ والباديةِ التي لا يعزُبُ عن علمنا شيءٌ منها.
وتقديمِ السرِّ على العَلَنِ إمَّا للمبالغةِ في بيان شمولِ علمهِ تعالى لجميعِ المعلوماتِ، كأنَّ علمه تعالى بما يسرُّونه، أقدمُ منه بما يعلنونَه مع استوائِهما في الحقيقةِ.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} فرّع على قوله: {واتَّخذوا من دُونِ الله ءَالِهَةً} [يس: 74] صرفُ أن تحزن أقوالهم النبي صلى الله عليه وسلم أي تحذيره من أن يحزِن لأقوالهم فيه فإنهم قالوا في شأن الله ما هو أفظع.
و {قولهم} من إضافة اسم الجنس فيعم، أي فلا تحزنك أقوالهم في الإِشراك وإنكار البعث والتكذيب والأذى للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، ولذلك حذف المقول، أي لا يحزنك قولهم الذي من شأنه أن يحزنك.
والنهي عن الحزن نهي عن سببه وهو اشتغال بال الرسول بإعراضهم عن قبول الدين الحق، وهو يستلزم الأمر بالأسباب الصارفة للحزن عن نفسه من التسلّي بعناية الله تعالى وعقابه من ناووه وعادوه.
وفي قوله: {ما يُسِرُّونَ وما يُعلنون} تعميم لجعل التعليل تذييلاً أيضاً.
و« إنّ» مغنية عن فاء التسبب في مقام ورودها لمجرد الاهتمام بالتأكيد المخبر بالجملة ليست مستأنفة ولكنها مترتبة.
والوقف عند قوله: {ولا يحزنك قولهم} مع الابتداء بقوله: {إنَّا نعلم} أَحسنُ من الوصل؛ لأنه أوضح للمعنى، وليس بمتعيّن؛ إذ لا يخطر ببال سامع أنهم يقولون: إن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون، ولو قالوه لما كان مما يحزن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف ينهى عن الحزن منه.