إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{فَلَا يَحۡزُنكَ قَوۡلُهُمۡۘ إِنَّا نَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَ} (76)

فإنَّ الفاء في قوله تعالى { فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } لترتيب النَّهيِ على ما قبله فلابُدَّ أنْ يكونَ عبارةً عن خسرانِهم وحرمانِهم عمَّا علَّقوا به أطماعَهم الفارغةَ وانعكاسُ الأمرِ عليهم بترتب الشَّرِّ على ما رتَّبوه لرجاءِ الخبر فإن ذلك مما يُهوِّن الخطبَ ويورث السَّلوةَ ، وأما كونُهم معدِّين لخدمتِهم وحفظِهم فبمعزلٍ من ذلكَ والنَّهيُ وإنْ كان بحسبِ الظَّاهرِ متوجِّهاً إلى قولهم لكنه في الحقيقة متوجّهٌ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ونهيٌ له عليه السَّلامُ عن التَّأثرِ منه بطريقِ الكنايةِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه فإن النَّهيَ عن أسبابِ الشَّيءِ ومبادئهِ المؤدَّيةِ إليه نهيٌ عنه بالطَّريقِ البُرهانِّي وإبطالٍ للسَّببيةِ وقد يُوجَّه النَّهيُ إلى المسبَّبِ ويراد النَّهيُ عن السَّببِ كما في قولِه لا أرينك هَهُنا يريد به نهيَ مخاطبه عن الحضورِ لديهِ والمرادُ بقولِهم ما ينبئ عنه ما ذُكر من اتِّخاذهم الأصنامَ آلهةً فإنَّ ذلكَ مما لا يخلُو عن التَّفوه بقولِهم هؤلاءِ آلهتُنا وأنهم شركاءُ لله سبحانه في المعبوديةِ وغير ذلك مَّما يُورث الحزنَ . وقرئ يُحزِنك بضمِّ الياء وكسرِ الزَّايِ من أحزنَ المنقولِ من حزنَ اللازمِ وقوله تعالى :

{ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } تعليلٌ صريحٌ للنَّهي بطريقِ الاستئنافِ بعد تعليلهِ بطريقِ الإشعارِ فإنَّ العلمَ بما ذُكر مستلزمٌ للمجازاةِ قطعاً أي إنَّا نجازيهم بجميعِ جناياتهم الخافيةِ والباديةِ التي لا يعزُبُ عن علمنا شيءٌ منها وفيه فضلُ تسليةٍ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتقديمِ السرِّ على العَلَنِ إمَّا للمبالغةِ في بيان شمولِ علمهِ تعالى لجميعِ المعلوماتِ كأنَّ علمه تعالى بما يسرُّونه أقدمُ منه بما يعلنونَه مع استوائِهما في الحقيقةِ فإنَّ علمَه تعالى بمعلوماتهِ ليس بطريقِ حصولِ صورها بل وجود كلِّ شيءٍ في نفسِه علم بالنِّسبةِ إليه تعالى ، وفي هذا المعنى لا يختلفُ الحالُ بين الأشياءِ البارزةِ والكامنةِ وإما لأن مرتبةَ السرِّ متقدمةٌ على مرتبة العَلَنِ إذ ما من شيءٍ يعلن إلا وهو أو مباديه مضمرٌ في القلبِ قبل ذلك فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدِّم على تعلقهِ بحالتهِ الثَّانية حقيقة .