قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا } ، قرأ أبو جعفر ، وابن عامر ، وحمزة ، وحفص ، ( يحسبن ) بالياء ، وقرأ الآخرون بالتاء ، ( سبقوا ) أي : فأتوا ، نزلت في الذين انهزموا يوم بدر من المشركين . فمن قرأ بالياء يقول ( لا يحسبن الذين كفروا ) أنفسهم سابقين فائتين من عذابنا ، ومن قرأ بالتاء فعلى الخطاب ، قرأ ابن عامر .
قوله تعالى : { أنهم لا يعجزون } . بفتح الألف ، أي : لأنهم لا يعجزون ، ولا يفوتونني . وقرأ الآخرون بكسر الألف على الابتداء .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أن الكافرين لن ينجوا من عقابه ، وبشر المؤمنين بالنصر فقال : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سبقوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } وقوله { يَحْسَبَنَّ } من الحسبان بمعنى الظن ، وقد قرأ ابن عامر وحفص وحمزة " يحسبن " بالياء ، وقرأ الباقون بالتاء .
وقوله : { يُعْجِزُونَ } من العجز ، وأصله - كما يقول الراغب - : التأخر عن الشئ . . ثم صار في التعارف اسماً للقصور عن فعل الشئ ، وهو ضد القدرة . . والعجوز سميت بذلك لعجزها في كثير من الأمور . .
والمعنى - على القراءة بالياء - : ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم أنهم قد سبقوا الله فنجوا من عقابه ، وخلصوا من عذابه .
. كلا إن حسبانهم هذا باطل - لأنهم لا يعجزون الله ، بل هو - سبحانه - قادر على إهلاكهم وتعذيبهم في كل وقت . .
وأن نجاتهم من القتل أو الأسرفي الدنيا لن تنفعهم شيئاً من العذاب المهين في الآخرة .
وعلى هذه القراءة يكون فاعل { يَحْسَبَنَّ } قوله { الذين كَفَرُواْ } ويكون المفعول الأول ليحسبن محذوف أى : ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم ، والمفعول الثانى جملة { سبقوا } .
وأما على القراءة الثانية { وَلاَ يَحْسَبَنَّ } فيكون قوله { الذين كَفَرُواْ } هو المفعول الأول . وجملة { سبقوا } هى المفعول الثانى .
أى : ولا تحسبن - أيها الرسول الكريم - أن هؤلاء الكافرين قد سبقونا خيانتهم لك ، أو أفلتوا من عقابنا وصاروا في مأمن منا . . كلا ، إنهم لا يعجزوننا عن إدراكهم وإنزال العقوبة بهم في أي وقت نريده فنحن لا يعجزنا شئ . .
وعلى كلتا القراءتين فالمقصود من الآية الكريمة قطع أطماع الكافرين في النجاة ، وإقناطهم من الخلاص ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم : إن من لم يصبه عذاب الدنيا ، فسوف يصيبه عذاب الآخرة ، ولا مفر له من ذلك ما دام قد استحب الكفر على الإِيمان ، أما المؤمنون فلهم من الله - تعالى - التأييد والنصر وحسن العقابة
{ وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوَاْ إِنّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } .
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز والعراق : «وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إنّهُمْ » بكسر الألف من «إنهم » وبالتاء في «تحسبنّ » ، بمعنى : ولا تحسبنّ يا محمد الذين كفروا سبقونا ففاتونا بأنفسهم . ثم ابتدىء الخبر عن قدرة الله عليهم ، فقيل : إن هؤلاء الكفرة لا يعجِزون ربهم إذا طلبهم وأراد تعذيبهم وإهلاكهم بأنفسهم فيفوتوه بها . وقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة والكوفة : وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا بالياء في «يحسبنّ » ، وكسر الألف من «إنهم » ، وهي قراءة غير حميدة لمعنيين : أحدهما خروجهما من قراءة القرّاء وشذوذها عنها ، والاَخر بعدها من فصيح كلام العرب وذلك أن «يحسب » يطلب في كلام العرب منصوبا وخبره ، كقوله : عبد الله يحسب أخاك قائما ويقوم وقام ، فقارىء هذه القراءة أصحب «يحسب » خبرا لغير مخبر عنه مذكور ، وإنما كان مراده : ظنيّ ولا يحسبنّ الذين كفروا سبقوا أنهم لا يعجزوننا ، فلم يفكر في صواب مخرج الكلام وسقمه ، واستعمل في قراءته ذلك كذلك ما ظهر له من مفهوم الكلام . وأحسب أن الذي دعاه إلى ذلك الاعتبار بقراءة عبد الله ، وذلك أنه فيما ذكر في مصحف عبد الله : «وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّهُمْ سَبَقُوا إنّهُمْ لا يُعْجِزُونَ » وهذا فصيح صحيح إذا أدخلت أنهم في الكلام ، لأن «يحسبنّ » عاملة في «أنهم » ، وإذا لم يكن في الكلام «أنهم » كانت خالية من اسم تعمل فيه . وللذي قرأ من ذلك من القرّاء وجهان في كلام العرب وإن كانا بعيدين من فصيح كلامهم : أحدهما أن يكون أريد به : ولا يحسبنّ الذين كفروا أن سبقوا ، أو أنهم سبقوا ، ثم حذف «أن » و«أنهم » ، كما قال جلّ ثناؤه : وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفا وَطَمَعا بمعنى : أن يريكم . وقد ينشد في نحو ذلك بيت لذي الرمة :
أظَنّ ابْنُ طُرْثُوثٍ عُيَيْنَةُ ذَاهِبا ***بِعادِيّتِي تَكْذَابُهُ وَجَعائِلُهْ
بمعنى : أظنّ ابن طرثوث أن يذهب بعاديتي تكذابُه وجعائله . وكذلك قراءة من قرأ ذلك بالياء ، يوجه «سبقوا » إلى «سابقين » على هذا المعنى . والوجه الثاني على أنه أراد إضمار منصوب ب «يحسب » ، كأنه قال : ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا ، ثم حذف الهمز وأضمر . وقد وجه بعضهم معنى قوله : أنّمَا ذَلِكُمُ الشّيْطانُ يُخَوّفُ أوْلِياءَهُ إنما ذلكم الشيطان يخوّف المؤمن من أوليائه ، وأن ذكر المؤمن مضمر في قوله : «يخوّف » ، إذ كان الشيطان عنده لا يخوّف أولياءه . وقرأ ذلك بعض أهل الشام : «وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا » بالتاء من «تحسبن » «سَبَقُوا إنّهُمْ لا يُعْجِزُونَ » بفتح الألف من «أنهم » ، بمعنى : ولا تحسبنّ الذين كفروا أنهم لا يعجزون . ولا وجه لهذه القراءة يعقل إلا أن يكون أراد القارىء ب «لا » التي في يعجزون «لا » التي تدخل في الكلام حشوا وصلة . فيكون معنى الكلام حينئذ : ولا تحسبنّ الذين كفروا سبقوا أنهم يعجزون . ولا وجه لتوجيه حرف في كتاب الله إلى التطويل بغير حجة يجب التسليم لها وله في الصحة مخرج .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأ : «لا تَحْسَبن » بالتاء «الّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إنهُمْ » بكسر الألف من «إنهُمْ لا يُعْجِزُونَ » بمعنى : ولا تحسبنّ أنت يا محمد الذين جحدوا حجج الله وكذّبوا بها سبقونا بأنفسهم ، ففاتونا ، إنهم لا يعجزوننا : أي يفوتوننا بأنفسهم ، ولا يقدرون على الهرب منا . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : «وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إنّهُمْ لا يُعْجِزُونَ » يقول : لا يفوتون .
{ ولا يحسبنّ } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { الذين كفروا سبقوا } مفعولاه وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص بالياء على أن الفاعل ضمير أحد أو { من خلفهم } ، أو { الذين كفروا } والمفعول الأول أنفسهم فحذف للتكرار ، أو على تقدير أن { سبقوا } وهو ضعيف لأن أن المصدرية كالموصول فلا تحذف أو على إيقاع الفعل على { أنهم لا يُعجزون } بالفتح على قراءة ابن عامر وأن { لا } صلة و{ سبقوا } حال بمعنى سابقين أي مفلتين ، والأظهر أنه تعليل للنهي أي : لا تحسبنهم سبقوا فأفلتوا لأنهم لا يفوتون الله ، أو لا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم وكذا إن كسرت إن إلا أنه تعليل على سبيل الاستئناف ، ولعل الآية إزاحة لما يحذر به من نبذ العهد وإيقاظ العدو ، وقيل نزلت فيمن أفلت من فل المشركين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.