قوله تعالى : { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبةً } ، أي : شكاً ونفاقا ، { في قلوبهم } ، يحسبون أنهم كانوا في بنيانه محسنين كما حبب العجل إلى قوم موسى . قال ابن عباس رضي الله عنهما . وقال الكلبي : حسرة وندامة لأنهم ندموا على بنائه . وقال السدي : لا يزال هدم بنائهم ريبة وحزازة وغيظاً في قلوبهم .
قوله تعالى : { إلا أن تقطع قلوبهم } ، أي : تتصدع قلوبهم فيموتوا . قرأ ابن عامر ، وأبو جعفر ، وحمزة ، وحفص : " تقطع " بفتح التاء أي : تتقطع . والآخرون بضمها . وقرأ يعقوب وحده : ( إلى أن ) خفيف ، على الغاية ، " تقطع " بضم التاء ، خفيف ، من القطع يدل عليه تفسير الضحاك وقتادة : لا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا . { والله عليم حكيم } .
بين - سبحانه - الآثار التي ترتبت على هدم مسجد الضرار ، في نفوس هؤلاء المنافقين الأشرار فقال - تعالى - : { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
الريبة : اسم من الريب بمعنى الشك والقلب والحيرة ، وتقطع - بفتح التاء - أصلها تتقطع فحذفت إحدى التاءين ، من التقطع بمعنى التمزق . وقرأ بعضهم . " تقطع " - بضم التاء - من التقطيع بمعنى التفريق والتمزيق .
والاستثناء مفرغ من أعم الأوقات والأحوال ، والمستثنى منه محذوف ، والتقدير : لا يزال ما بناه هؤلاء المنافقون موضع ريبة وقلق في نفسهم في كل وقت حال إلا في وقت واحد وهو وقت أن تتمزق قلوبهم بالموت والهلاك أى : أنهم لا يزالون في قلق وحيرة ما داموا أحياء ، أما بعد موتهم فستتكشف لهم الحقائق ، ويجدون مصيرهم الأليم .
والسبب في أن هذا البناء كان مثار يبتهم وقلقهم حتى بعد هدمه ، أنهم بنوه نبية سيئة ، ولتلك المقاصد الأربعة الخبيثة التي بينتها الآية الأولى . فكانوا يخشون أن يطلع الله نبيهم على مقاصدهم الذميمة ، فهذه الخشية أورثتهم القلبق والريبة ، فلما أطاع الله - تعالى - نبيه على أغراضهم ، وتم هدم مسجد الضرار ، وانهار الجرف المتداعى المتساقط ، استمر قلقهم وريبهم ؛ لأنهم لا يدرون بعد ذلك ماذا سيفعل المؤمنون بهم .
وهكذا شأن الماكرين في كل زمان ومكان ، إنهم يعيشون طول حياتهم في فزع وقلق وخوف من أن ينكشف مكرهم ، ويظهر خداعهم .
وقوله : { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } تذييل قصد به تهديهم وزجرهم .
أى : والله - تعالى - عليم بكل شئ في هذا الكون ، وبكل ما يقوله ويفعله هؤلاء المنافقون سرا وجهرا : حكيم في كل تصرفاته وأفعاله وفى صنعه بهم ، وسيجازيهم يوم القيامة بما يستحقونه من عقاب .
القول في تأويل قوله تعالى : { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاّ أَن تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : لا يزال بنيان هؤلاء الذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا رِيَبةً يقول : لا يزال مسجدهم الذي بنوه ريبة في قلوبهم ، يعني شكّا ونفاقا في قلوبهم ، يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين . إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ يعني إلا أن تتصدّع قلوبهم فيموتوا ، والله عليم بما عليه هؤلاء المنافقون الذين بنوا مسجد الضرار من شكهم في دينهم وما قصدوا في بنائهموه وأرادوه وما إليه صائر أمرهم في الاَخرة وفي الحياة ما عاشوا ، وبغير ذلك من أمرهم وأمر غيرهم ، حكيم في تدبيره إياهم وتدبير جميع خلقه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لا يَزَالُ بُنْيانُهُمُ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ يعني شكّا إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ يعني الموت .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قال : شكّا في قلوبهم ، إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ إلى أن يموتوا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً في قُلُوبِهِمْ إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ يقول : حتى يموتوا .
حدثني مطر بن محمد الضبي ، قال : حدثنا أبو قتيبة ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، في قوله : إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ قال : إلا أن يموتوا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ قال : يموتوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ قال : يموتوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
قال : حدثنا سويد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن قتادة والحسن : لا يَزَالُ بُنْيانُهُمْ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قالا شكّا في قلوبهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق الرازي ، قال : حدثنا أبو سنان ، عن حبيب : لا يَزَالُ بُنْيانُهُمُ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قال : غيظا في قلوبهم .
قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ قال : يموتوا .
قال : حدثنا إسحاق الرازي ، عن أبي سنان ، عن حبيب : إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ : إلا أن يموتوا .
قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن السديّ : رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قال : كفر . قلت : أكفر مجمّع ابن جارية ؟ قال : لا ، ولكنها حزازة .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن السدي : لا يَزَالُ بُنْيانُهُمُ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قال : حزازة في قلوبهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لا يَزَالُ بُنْيانُهُمُ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ لا يزال ريبةً في قلوبهم راضين بما صنعوا ، كما حبب العجل في قلوب أصحاب موسى . وقرأ : وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قال : حبه . إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ قال : لا يزال ذلك في قلوبهم حتى يموتوا يعني المنافقين .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن السديّ ، عن إبراهيم : رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قال : شكّا . قال : قلت يا أبا عمران تقول هذا وقد قرأت القرآن ؟ قال : إنما هي حزازة .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ فقرأ ذلك بعض قرّاء الحجاز والمدينة والبصرة والكوفة : «إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ » بضمّ التاء من «تقطع » ، على أنه لم يسمّ فاعله ، وبمعنى : إلا أن يقطع الله قلوبهم . وقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة والكوفة : إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ بفتح التاء من تقطّع على أن الفعل للقلوب . بمعنى : إلا أن تنقطع قلوبهم ، ثم حذفت إحدى التاءين . وذكر أن الحسن كان يقرأ : «إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ » بمعنى : حتى تتقطع قلوبهم . وذكر أنها في قراءة عبد الله : «وَلَوْ قُطّعَتْ قُلُوبهُمْ » وعلى الاعتبار بذلك قرأ من ذلك : «إلاّ أنْ تُقَطّعَ » بضم التاء .
والقول عندي في ذلك أن الفتح في التاء والضم متقاربا المعنى ، لأن القلوب لا تتقطع إذا تقطعت إلا بتقطيع الله إياها ، ولا يقطعها الله إلا وهي متقطعة . وهما قراءتان معروفتان قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب في قراءته . وأما قراءة من قرأ ذلك : «إلى أن تُقْطّعَ » ، فقراءة لمصاحف المسلمين مخالفة ، ولا أرى القراءة بخلاف ما في مصاحفهم جائزة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.