البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَا يَزَالُ بُنۡيَٰنُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوۡاْ رِيبَةٗ فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَّآ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (110)

{ لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم } : يحتمل أن يكون البنيان هنا مصدراً أي : لا يزال ذلك الفعل وهو البنيان ، ويحتمل أن يراد به المبني ، فيكون على حذف مضاف أي : لا يزال بناء المبنى .

قال ابن عباس : لا يزالون شاكين .

وقال حبيب بن أبي ثابت : غيظاً في قلوبهم ، أي سبب غيظ .

وقيل : كفراً في قلوبهم .

وقال عطاء : نفاقاً في قلوبهم .

وقال ابن جبير : أسفاً وندامة .

وقال ابن السائب ومقاتل : حسرة وندامة ، لأنهم ندموا على بنيانه .

وقال قتادة : في الكلام حذف تقديره : لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا ريبة أي : حزازة وغيظاً في قلوبهم .

وقال ابن عطية : الذي بنوا تأكيد وتصريح بأمر المسجد ورفع الإشكال ، والريبة الشك ، وقد يسمى ريبة فساد المعتقد واضطرابه ، والإعراض في الشيء والتخبيط فيه .

والحزازة من أجله ، وإن لم يكن شكا فقد يرتاب من لا يشك ، ولكنها في معتاد اللغة تجري مع الشك .

ومعنى الريبة في هذه الآية تعم الحيق ، واعتقاد صواب فعلهم ، ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الريبة في الإسلام .

فمقصد الكلام : لا يزال هذا البنيان الذي هدم لهم يبقي في قلوبهم حزازة وأثر سوء .

وبالشك فسر ابن عباس الريبة هنا ، وفسرها السدي بالكفر .

وقيل له : أفكفر مجمع بن جارية ؟ قال : لا ، ولكنها حزازة .

قال ابن عطية : ومجمع رحمه الله ، قد أقسم لعمر أنه ما علم باطن القوم ، ولا قصد سوء .

والآية إنما عنت من أبطن سوءاً .

وليس مجمع منهم .

ويحتمل أن يكون المعنى لا يزالون مريبين بسبب بنيانهم الذي اتضح فيه نفاقهم .

وجملة هذا أنّ الريبة في الآية نعم معاني كثيرة يأخذ كل منافق منها بحسب قدره من النفاق .

وقال أبو عبد الله الرازي : جعل نفس البنيان ريبة لكونه سبباً لها ، وكونه سبباً لها أنه لما أمر بتخريب ما فرحوا ببنائه ثقل ذلك عليهم ، وازداد بعضهم له ، وارتيابهم في نبوته ، أو اعتقدوا هدمه من أجل الحسد ، فارتفع إيمانهم وخافوا الإيقاع بهم قتلاً ونهباً ، أو بقوا شاكين : أيغفر الله لهم تلك المعصية ؟ انتهى ، وفيه تلخيص .

وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص : إلا أن تقطع قلوبهم بفتح التاء أي : يتقطع ، وباقي السبعة بالضم ، مضارع قطع مبنياً للمفعول .

وقرىء يقطع بالتخفيف .

وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، ويعقوب : إلى أن نقطع ، وأبو حيوة إلى أن تُقطع بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددة ، ونصب قلوبهم خطاباً للرسول أي : تقتلهم ، أو فيه ضمير الريبة .

وفي مصحف عبد الله : ولو قطعت قلوبهم ، وكذلك قرأها أصحابه .

وحكى أبو عمرو هذه القراءة : إن قطعت بتخفيف الطاء .

وقرأ طلحة : ولو قطعت قلوبهم خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو كل مخاطب .

وفي مصحف أبي : حتى الممات ، وفيه حتى تقطع .

فمن قرأ بضم التاء وكسر الطاء ونصب القلوب فالمعنى : بالقتل .

وأما على من قرأه مبنياً للمفعول ، فقال ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم : بالموت أي : إلى أن يموتوا .

وقال عكرمة : إلى أن يبعث من في القبور .

وقال سفيان : إلى أن يتوبوا عما فعلوا ، فيكونون بمنزلة من قطع قلبه .

قال ابن عطية : وليس هذا بظاهر ، إلا أن يتأول أن يتوبوا توبة نصوحاً يكون معها من الندم والحسرة ما يقطع القلوب هماً .

وقال الزمخشري : لا يزال يبديه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم ، لا يزال وسمه في قلوبهم ولا يضمحل أمره إلا أن تقطع قلوبهم قطعاً وتفرق أجزاء ، فحينئذ يسألون عنه ، وأما ما دامت سليمة مجتمعة فالريبة قائمة فيها متمكنة .

ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم ، أو في القبور ، أو في النار .

وقيل : معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم .

والله عليم بأحوالهم ، حكيم فيما يجري عليهم من الأحكام ، أو عليم بنياتهم ، حكيم في عقوباتهم .