اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَا يَزَالُ بُنۡيَٰنُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوۡاْ رِيبَةٗ فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَّآ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (110)

قوله : { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ } .

أي : ذلك البنيان صار سبباً لحصول الريبة في قلوبهم . و " بُنيَانهُم " يحتملُ أن يكون مصدراً على حاله ، أي : لا يزالُ هذا الفعلُ الصَّادرُ منهم ، ويحتملُ أن يكون مراداً به المبني ، وحينئذٍ يضطرُّ إلى حذف مضاف ، أي : بناء بنيانهم ؛ لأن المبنيَّ ليس ريبةً ، أو يقدَّر الحذف من الثاني أي : لا يزال مبنيُّهم سبب ريبة . وقوله : " الذي بَنَوا " تأكيدٌ دفعاً لوهم من يتوهَّم أنهم لم يَبْنُوا حقيقة ، وإنَّما دبَّرُوا أموراً ، من قولهم : كم أبني وتهدمُ ، وعليه قوله : [ الطويل ]

متى يبلغُ البُنْيانُ يَوْماً تَمَامَهُ *** إذَا كُنْتَ تَبْنيهِ وغيْرُكَ يَهْدِمُ ؟{[18155]}

فصل

في كونه سبباً للريبة وجوه : الأول : أنَّ المنافقين فرحوا ببناء مسجد الضَّرار ، فلمَّا أمر الرسول بتخريبة ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته .

وثانيها : أنَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - لما أمر بتخريبه ، ظنُّوا أنَّهُ إنَّما أمر بتخريبه حسدا ، فارتفع أمانهم عنه ، وعظم خوفهم منه ، وصاروا مرتابين في أنَّهُ هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم ؟

وثالثها : أنَّهم اعتقدوا كونهم محسنين في بناء ذلك المسجد ، كما حبب العجل إلى قوم موسى ، فلمَّا أمر الرَّسول - عليه الصلاة والسلام - بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه ؟ قاله ابن عباس . وقال الكلبيُّ : " ريبة " أي : حسرة وندامة ، لأنهم ندموا على بنائه{[18156]} . وقال السُّدي : لا يزال هدم بنيانهم ريبة ، أي : حزازة وغيظاً في قلوبهم{[18157]} .

قوله : " إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ " المستثنى منه محذوفٌ ، والتقدير : لا يزالُ بنيانهم ريبةً في كلِّ وقت إلاَّ وقت تقطيع قلوبهم أو في كل حال إلاَّ حال تقطيعها .

وقرأ ابن عامر{[18158]} ، وحمزة ، وحفص " تقطَّع " بفتح التَّاء ، والأصل تتقطع بتاءين ، فحذفت إحداهما .

وعن ابن{[18159]} كثير " تَقْطع " بفتح الياء وتسكين القاف " قُلوبَهُم " بالنصب ، أي : تفعلُ أنت بقلوبهم هذا الفعل . وقرأ الباقون " تُقَطَّع " بضمِّها ، وهو مبني للمفعول ، مضارع " قطَّع " بالتشديد . وقرأ أبيّ{[18160]} " تَقْطَع " مخففاً من " قطع " . وقرأ الحسنُ{[18161]} ، ومجاهد وقتادة ، ويعقوب " إلى أن " ب " إلى " الجارة . وأبو حيوة كذلك ، وهي قراءةٌ واضحةٌ في المعنى ، إلاَّ أنَّا أبا حيوة قرأ{[18162]} " تُقَطِّع " بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددةً والفاعل ضميرُ الرسول ، " قُلُوبَهُم " نصباً على المفعول به ، والمعنى بذلك أنه يقتلهم ويتمكَّن منهم كلَّ تمكُّن . وقيل : الفاعلُ ضمير " الرِّيبة " ، أي : إلى أنْ تقطع الرِّيبةُ قلوبهم وفي مصحف عبد الله " ولو قُطِّعَتْ " وبها قرأ أصحابه ، وهي مخالفةٌ لسوادِ مصاحف الناس . والمعنى أنَّ هذه الريبة باقية في قلوبهم أبداً ويموتون على النِّفاق . وقيل : معناه إلاَّ أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم . وقيل : حتى تنشق قلوبهم غماً وحسرة . " والله عَلِيمٌ " بأحوالهم ، " حَكِيمٌ " في الأحكام التي يحكمُ بها عليهم .


[18155]:ينظر: الدر المصون 3/506، روح المعاني 11/24.
[18156]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/329).
[18157]:انظر: المصدر السابق.
[18158]:ينظر: السبعة ص (319)، الحجة 4/230، حجة القراءات ص (324)، إعراب القاراءت 1/255، إتحاف 22/99.
[18159]:ينظر: السابق.
[18160]:ينظر: الكشاف 2/313، المحرر الوجيز 3/86، البحر المحيط 5/105، الدر المصون 3/506.
[18161]:ينظر: السابق.
[18162]:ينظر: السابق.