{ بسم الله الرحمن الرحيم }{ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم هو الذي بعث في الأميين } يعني العرب كانت أمة أمية لا تكتب ولا تقرأ { رسولاً منهم } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم نسبه نسبهم . { يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } أي ما كانوا قبل بعثة الرسول إلا في ضلال مبين يعبدون الأوثان .
قوله تعالى : " هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم " قال ابن عباس : الأميون العرب كلهم ، من كتب منهم ومن لم يكتب ؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب . وقيل : الأميون الذين لا يكتبون . وكذلك كانت قريش . وروى منصور عن إبراهيم قال : الأمي الذي يقرأ ولا يكتب . وقد مضى في " البقرة{[14956]} " . " رسولا منهم " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم . وما من حي من العرب إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة وقد ولدوه . قال ابن إسحاق : إلا حي تغلب ، فإن الله تعالى طهر نبيه صلى الله عليه وسلم منهم لنصرانيتهم ، فلم يجعل لهم عليه ولادة . وكان أميا لم يقرأ من كتاب ولم يتعلم صلى الله عليه وسلم . قال الماوردي : فإن قيل ما وجه الامتنان فإن بعث نبيا أميا ؟ فالجواب عنه من ثلاثة أوجه : أحدها : لموافقته ما تقدمت به بشارة الأنبياء . الثاني : لمشاكلة حاله لأحوالهم ، فيكون أقرب إلى موافقتهم . الثالث : لينتفي عنه سوء الظن في تعليمه ما دعا إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها .
قلت : وهذا كله دليل معجزته وصدق نبوته .
قوله تعالى : " يتلو عليهم آياته " يعني القرآن " ويزكيهم " أي يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان ، قاله ابن عباس . وقيل : يطهرهم من دنس الكفر والذنوب ، قاله ابن جريج ومقاتل . وقال السدي : يأخذ زكاة أموالهم " ويعلمهم الكتاب " يعني القرآن " والحكمة " السنة ، قاله الحسن . وقال ابن عباس : " الكتاب " الخط بالقلم ؛ لأن الخط فشا في العرب بالشرع لما أمروا بتقييده بالخط . وقال مالك بن أنس : " الحكمة " الفقه في الدين . وقد مضى القول في هذا في " البقرة " . " وإن كانوا من قبل " أي من قبله وقبل أن يرسل إليهم . " لفي ضلال مبين " أي في ذهاب عن الحق .
ولما كانت القدرة على تزكية الجلف الجافي بحمله{[65208]} على التنزيه أدل على القدرة على غيره ، وكان قد أسلف عن بني إسرائيل أنهم لم يقبلوا التزكية بل زاغوا ، دل على قدرته في عزته وحكمته وملكه وقدسه على تزكية جميع العقلاء بقوله : { هو } أي وحده { الذي بعث } أي من حضرة غيب غيبه بشرع أوامره ونواهيه { في الأميين } أي العرب لأنهم كانوا معروفين من{[65209]} بين سائر الأمم لا يكتبون بل هم على الخلقة الأولى حين الخروج من بطن الأم ، وذكر ظرف البعث وإهمال غايته دال على أنها كل من يتأتى البعث إليه وهم جميع الخلق ، ويجوز أن تطلق الأمية على جميع أهل الأرض لأن بعثه{[65210]} صلى الله عليه وسلم كان حين ذهب العلم من الناس ، ولأن العرب أصل فجميع الباقين تبع لهم ، فلا بدع أن يحمل{[65211]} عليهم وصفهم { رسولاً } ولما كان تقويم الشيء بمثله أعجب قال : { منهم{[65212]} } بل الأمية بمعنى{[65213]} عدم الكتابة والتجرد عن كل تكلف وصف لازم له دائماً وعلمه لما يكن يعلم من غير تطلب{[65214]} ، فكانت آثار البشرية عنه مندرسة ، وأنوار الحقائق عليه لائحة ، وذلك لئلا يتوهم الافتقار إلى الاستعانة بالكتب لأن منشأ مشاكلته لحال من بعث فيهم أقرب إلى مساواتهم له لو أمكنهم{[65215]} ، فيكون عدم إمكان المساواة أدل على الإعجاز ، وذكر بعثه{[65216]} منهم إن خص الوصف بالعرب لا ينفي بعثه{[65217]} إلى غيرهم ولا سيما مع ما ورد فيه من الصرائح وأثبته من الدلائل القواطع{[65218]} ، فذكر موضع البعث وابتداءه فتكون الغاية مطلقة تقديرها : إلى عامة الخلق .
ولما كان كونه منهم مفهماً لأنه لا يزيد عليهم من حيث كونه منهم{[65219]} وإن زاد فبشيء يسير ، عجب{[65220]} من أمره ونبه{[65221]} على معجزة عظيمة له بقوله مستأنفاً : { يتلوا } أي يقرأ قراءة يتبع بعضها بعضاً على وجه الكثرة والعلو والرفعة { عليهم } مع كونه أمياً مثلهم { آياته } أي يأتيهم بها على سبيل التجدد والمواصلة آية بينة على صدقه لأنه أمي مثلهم بل فيهم الكاتب والعالم وإن كانوا معمورين في كثرتهم فما{[65222]} خصه عنهم بذلك إلا القادر على كل شيء .
ولما كان المقام للتنزيه ولتأديب من وقع في موادة الكفار ونحو ذلك ، قدم التزكية فقال{[65223]} : { ويزكيهم } أي عن الأخلاق الرذيلة والعقائد الزائغة ، فكانت{[65224]} تزكيته لهم مدة حياته بنظره الشريف إليهم وتعليمه لهم وتلاوته عليهم ، فربما نظر إلى الإنسان نظرة محبة فزكاه الله بها ، وربما سرت تلك النظرة إلى ثان فأشرقت أنوارها عليه على حسب القابليات كما وقع لعمير بن وهب ثم صفوان بن أمية وكذا ذو النور{[65225]} الطفيل بن عامر الدوسي رضي الله عنه ثم قومه ، فأما عمير فكان من أعظم المؤذين{[65226]} للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن آمن به فتذاكر مع صفوان وقعة بدر في الحجر ومن فقدوا من صناديدهم وأنه ليس في العيش بعدهم خير ، ثم تمنوا رجلاً بقتال النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عمير : لولا فقري وبنات لي وعيال أخشى عليهم الضيعة من بعدي لأتيته بغلة{[65227]} أسيري عندهم فقتلته ، فاغتنمها صفوان فعاهده أن يكفي عياله إن مات وأن يواسيه إن عاش ، فقال : اكتم عني ثلاثاً ، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهداه الله فحلف صفوان أن لا يكلمه أبداً ، فلما فتحت مكة فر صفوان ليركب البحر من جدة ، فاستأذن عمير النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذهب إليه فلحقه فلم يزل به حتى رجع ثم أسلم فكان{[65228]} من خيار الصحابة رضي الله عنه ، وأما ذو النور فحين دعاه النبي صلى الله عليه وسلم ثم سأل آية يعينه الله بها على قومه فآتاه الله نوراً حين أشرف على الحي الذي هو منه ، ثم دعا أباه وأمه فأسلما ، ثم صاحبته فكذلك ثم قومه ، فما تخلف منهم أحد ، وأما غير الصحابة رضي الله عنهم فتزكيته لهم بآثاره بحسب القابليات والأمور التي قضى الله أن يكون مهيأ ، {[65229]}فمن كان{[65230]} له أعشق كان لاتباعه ألزم ، فكان في كتاب الله وسنته أرسخ من سيرة وغيرها علماً وعملاً فكان{[65231]} أشد زكاء{[65232]} .
ولما كانوا بعد التزكية التي هي تخلية عن الرذائل أحوج ما يكون إلى تحلية بالفضائل قال : { ويعلمهم الكتاب } أي المنزل عليه الجامع لكل خير ديني ودنيوي في الأولى و{[65233]}الأخرى { والحكمة } وهي غاية الكتاب{[65234]} في قوة فهمه والعمل به ، فهي العلم{[65235]} المزين بالعمل والعمل{[65236]} المتقن بالعلم معقوله ومنقوله ليضعوا كل شيء منه في أحكم مواضعه فلا يزيغوا عن الكتاب كما زاغ بنو إسرائيل ، فيكون مثلهم{[65237]} كمثل الحمار {[65238]}يحمل أسفاراً{[65239]} ولو{[65240]} لم يكن له صلى الله عليه وسلم معجزة{[65241]} إلا هذه لكانت غاية .
ولما كان الوصف بالأمية مفهماً للضلال ، وكان كثير منهم حال إنزال هذه السورة يعتقد أنهم على دين متين وحال جليل مبين ، وكانوا{[65242]} بعد هدايته لهم بعد الأمية سيضلون لأن الإرسال{[65243]} من حضرة غيب الغيب في العلوم المنافية للأمية إلى ما لم تصل إليه أمة من الأمم قبلهم ، وكان ذلك موجباً للتوقف{[65244]} في كونهم كانوا أميين ، أكد هذا المفهوم بقوله : { وإن } أي والحال أنهم { كانوا } أي كوناً هو كالجبلة لهم . ولما كان{[65245]} كونهم ذلك في بعض الزمن الماضي ، أدخل الجار فقال : { من قبل } أي قبل إرساله إليهم من حين غيروا دين أبيهم إسماعيل{[65246]} عليه الصلاة والسلام وعبدوا الأصنام { لفي ضلال } أي بعد عن المقصود { مبين * } أي ظاهر في نفسه مناد لغيره{[65247]} أنه ضلال باعتقادهم الأباطيل الظاهرة وظنهم أنهم على شيء وعموم الجهل لهم ورضاهم به واختيارهم له وعيبهم {[65248]}من يميل{[65249]} إلى التعلم وينحو نحو التبصر كما وقع لهم مع زيد بن عمرو بن نفيل وغيره ، فوصفهم بهذا غاية في نفي التعلم من {[65250]}مخلوق عن نبيهم إعظاماً {[65251]}لما جاء به من الإعجاز وتقريراً لشدة احتياجهم إلى نبي يرشدهم إلى الهدى ، وينقذهم{[65252]} مما كانوا فيه من العمى والردى .