أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ قَدَّرۡنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ} (60)

{ إلا امرأته } استثناء من { آل لوط } ، أو من ضميرهم ، وعلى الأول لا يكون إلا من ضميرهم لاختلاف الحكمين اللهم إلا أن يجعل { إنا لمُنجّوهم } اعتراضا ، وقرأ حمزة والكسائي " لَمُنْجُوهُم " مخففا . { قدّرنا إنها لمن الغابرين } الباقين مع الكفرة لتهلك معهم . وقرأ أبو بكر عن عاصم " قَدَرْنا " هنا وفي " النمل " بالتخفيف ، وإنما علق والتعليق من خواص أفعال القلوب لتضمنه معنى العلم . ويجوز أن يكون { قدّرنا } أجري مجرى قلنا لأن التقدير بمعنى القضاء قول ، وأصله جعل الشيء على مقدار غيره وإسنادهم إياه إلى أنفسهم . وهو فعل الله سبحانه وتعالى لما لهم من القرب والاختصاص به .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ قَدَّرۡنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلۡغَٰبِرِينَ} (60)

وقوله { إلا امرأته } استثناء بعد استثناء وهما منقطعان فيما حكى بعض النحاة لأنهم لم يجعلوا امرأته الكافرة من آله .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، لأنها قبل الاستثناء داخلة في اللفظ الذي هو الأول ، وليس كذلك الأول مع «المجرمين » ، فيظهر الاستثناء الأول منقطعاً والثاني متصلاً ، والاستثناء بعد الاستثناء يرد المستثنى الثاني في حكم أمر الأول ، ومثل بعض الناس في هذا بقولك : لي عندك مائة درهم إلا عشرة دراهم إلا درهمين ، فرجعت الدرهمان في حكم التسعين الدرهم ، وقال المبرد : ليس هذا المثال بجيد ، لأنه من خلق الكلام ورثه إذ له طريق إلى أداء المعنى المقصود بأجمل من هذا التخليق ، وهو أن يقول لي عندك مائة إلا ثمانية ، وإنما ينبغي أن يكون مثالاً للآية قولك : ضربت بني تميم إلا بني دارم إلا حاجباً ، لأن حاجباً من بني دارم فلما كان المستثنى الأول في ضمنه ما لا يجري الحكم عليه ، والضرورة تدخله في لفظه ولا يمكنك العبارة عنه دون ذلك يجري الحكم عليهم اضطررت إلى استثناء ثان{[7193]} .

قال القاضي أبو محمد : ونزعة المبرد في هذا نبيلة ، وقرأ جميعهم سوى عاصم في رواية أبي بكر «قدّرنا » بتشديد الدال في كل القرآن ، وقرأ عاصم «قدَرنا » بتخفيفها ، ونقل في رواية حفص ، والتخفيف يكون بمعنى التثقيل كما قال الهذلي أبو ذؤيب : [ الطويل ]

ومفرهة عنس قدرت لساقها . . . فخرت كما تتابع الريح بالقفل{[7194]}

يريد قدرت ضربي لساقها ، وكقول النبي عليه السلام في الاستخارة : «واقدر لي الخير حيث كان »{[7195]} ، ويكون أيضاً بمعنى سن ووفق ومنه قول الشاعر : { يزيد بن مفرغ ]

بقندهار ومن تقدير منيته . . . يرجع دونه الخبر{[7196]}

وكسرت الألف من { إنها } بسبب اللام التي في قوله { لمن } والغابر الباقي في الدهر وغيره ، وقالت فرقة منهم النحاس : هو من الأضداد ، يقال في الماضي وفي الباقي{[7197]} ، وأما في هذه الآية فهي للبقاء أي من الغابرين في العذاب .


[7193]:يرى الزمخشري أنه ليس استثناء من استثناء، يقول: "لأن الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه، وأن يقال: أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته، كما اتحد الحكم في قول المطلق: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة، فأما في الآية فقد اختلف الحكمان، لأن {آل لوط} متعلق بـ [أرسلنا] أو ب [مجرمين] و {إلا امرأته} قد تعلق ب [منجوهم]، فأنى يكون استثناء من استثناء؟
[7194]:الناقة المفرهة: التي تلد الفرهة، أي: الملاح، يقال: جارية فارهة إذا كانت حسناء مليحة، والعنس: الناقة القوية، شبهت بالصخرة لصلابتها. وخرت: سقطت، والقفل: الشجر اليابس، يقول: قدرت ضربي لساق هذه الناقة القوية الصلبة التي تلد الملاح فسقطت وتدحرجت كما تفعل الريح بالشجر اليابس حين تدفعه على الرمال.
[7195]:هذا جزء من حديث شريف أخرجه البخاري في التهجد، والتوحيد، والدعوات، و أخرجه أبو داود، و الترمذي في الوتر، والنسائي في النكاح، وابن ماجه في الإقامة، و الإمام أحمد في مسنده (3ـ 344)، ولفظه كما في كتاب التوحيد في البخاري عن جابر بن عبد الله السلمي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلهان كما يعلم السورة من القرآن ، يقول: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم فإن كنت تعلم هذا الأمر ـ ثم تسميه بعينه ـ خيرا لي في عاجل أمري وآجله، ـ قال: أو في ديني و معاشي وعاقبة أمري ـ فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال: في عاجل أمري وآجله ـ فاصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به).
[7196]:البيت ليزيد بن مفرغ، وقندهار ـ بضم القاف والدال وسكون النون بينهما مدينة في الإقليم الثالث كما قال الحموي في "معجم البلدان"، قال: غزا عباد بن زياد ثغر السند وسجستان، فأتى "سناروز" ثم نزل "كس" وقطع المفازة حتى أتى "قندهار" فقاتل أهلها فهزمهم وقتلهم، وفتحها بعد أن أصيب من المسلمين، فرأى قلانس أهلها طوالا فعمل عليها فسميت العباديةن وقال يزيد بن مفرغ. كم بالجروم وأرض الهند من قدم و من سرابيل قتلى ليتهم قبروا بقندهار ومن تقدر منيته بقندهار يرجــــــــــم دونه الخبـــــــــر وترجيم الخبر أو الكلام معناه: يقال عن غير يقين.
[7197]:أما في الباقي فمنه ما ورد في الحديث الشريف: (أنه اعتكف العشر الغوابر من شهر رمضان) أي البواقي، ويقال عن الناقة: "بها غبر من لبن"، أي بقية من لبن، وقال ابن حلزة: لا تكسع الشول بأغبارهــــــــا إنك لا تدري من الناتــــج و أما في الماضي فمنه قول الأعشى: عض بما أبقى المواسي لــــه من أمة في الزمن الغابـــر يريد ما تركته الموسى عند ختان أمه.