نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ لِلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّۖ فَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ فَلِنَفۡسِهِۦۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيۡهَاۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيۡهِم بِوَكِيلٍ} (41)

ولما تجلت عرائس هذه المعاني آخذة بالألباب ، ولمعت سيوف تلك المباني من المثاني قاطعة الرقاب ، وختمها بما ختم من صادع الإرهاب ، أنتجت ولا بد قوله معللاً لإتيان ما توعدهم به مؤكداً لما لهم من الإنكار لمضمون هذا الإخبار : { إنا أنزلنا } أي بما لنا من باهر العظمة ونافذ الكلمة .

ولما كان توسط الملك خفياً . لم يعده فأسقط حرف الغاية إفهاماً لأنه في الحقيقة بلا واسطة بعد أن أثبت وساطته أول السورة فقال مقروناً بالأمر بالعبادة إشارة إلى بداية الحال ، فلما حصل التمكن فصار الكتاب خلقاً له صلى الله عليه وسلم وصار ظهوره فيه هادياً لغيره ، نبه على ذلك بأداة الاستعلاء فقال : { عليك } أي خاصة لا على غيرك من أهل هذا الزمان ، لأنك عندنا الخالص لنا دون أهل القريتين ودون أهل الأرض كلهم ، لم يكن لشيء دوننا فيك حظ { الكتاب } الجامع لكل خير لكونه في غاية الكمال بما دل عليه " ال " { للناس } عامة لأن رسالتك عامة { بالحق } مصاحباً له ، لا يقدر الخلق على أن يزيحوا معنى من معانيه عن قصده ، ولا لفظاً من ألفاظه عن سبيله وحده ، بل هو معجز في معانيه - حاضرة كانت أو غائبه - ونظومه ، وألفاظه وأسماء سوره وآياته وجميع رسومه ، فلا بد من إتيان ما فيه من وعد ووعيد .

ولما تسبب عن علم ذلك وجوب المبادرة إلى الإذعان له لفوز الدارين ، حسن جداً قوله تعالى تسلية له صلى الله عليه وسلم لعظيم ما له من الشفقة عليهم وتهديداً لهم : { فمن اهتدى } أي طاوع الهادي { فلنفسه } أي فاهتداؤه خاص نفعه بها ليس له فيه إلا أجر التسبب { ومن ضل } أي وقع منه ضلال بمخالفته لداعي الفطرة ثم داعي الرسالة عن علم وتعمد ، أو إهمال للنظر وتهاون . ولما كان ربما وقع في وهم أنه يحلق الداعي بعد البيان ومن إثم الضال ، وكان السياق لتهديد الضالين . زاد في التأكيد فقال : { فإنما يضل عليها } أي ليس عليك شيء من ضلاله ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات .

ولما هدى السياق إلى أن التقدير : فما أنت عليهم بجبار لتقهرهم على الهدى ، عطف عليه قوله : { وما أنت } أي في هذا الحال ، ولمزيد العناية بنفي القهر أداة الاستعلاء فقال : { عليهم بوكيل * } لتحفظهم عن الضلال ، فإن الرسالة إليهم لإقامة الحجة لا لقدرة الرسول على هدايتهم ولا لعجز المرسل عن ذلك .