التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَإِنَّا لَجَٰعِلُونَ مَا عَلَيۡهَا صَعِيدٗا جُرُزًا} (8)

صعيدا جرزا : الصعيد ( الأرض ) أو التراب والجرز الأملس اليابس الذي لا حياة أو لا نبات فيه ، أو لا ينزل عليه مطر من البلاء .

بسم الله الرحمن الرحيم

{ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ( 1 ) قيما 1 لينذر بأسا شديدا من لدنه و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ( 2 ) ماكثين فيه أبدا ( 3 ) و ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ( 4 ) ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ( 5 ) فلعلك باخع نفسك 2على أثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ( 6 ) إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ( 7 ) و إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا3 ( 8 ) } [ 1-8 ] .

بدأت السورة بحمد الله ، وهذا أسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور وقد مر منه بعض الأمثلة .

واحتوت الآيات الخمس الأولى : تقريرا بكون الله تعالى الذي له الحمد وحده قد نزل القرآن على عبده أي النبي محمد مستقيما لا عوج فيه لينذر الناس جميعا ببأسه وقوته . ويبشر المؤمنين الصالحين بالأجر الحسن الذي يتمتعون به تمتعا دائما خالدا ، وينذر الذين يعزون إليه اتخاذ الولد دون ما علم ولا بينة عندهم ولا عند آبائهم ، وإنها لكذبة كبرى تصدر عنهم بمنتهى الوقاحة والفظاعة .

والتفتت الآيات الثلاث التالية إلى النبي صلى الله عليه وسلم تنبهه إلى ما يحمّل نفسه من هم وحزن يكادان يهلكانها بسبب انصراف الناس عن الاستجابة لدعوته والإيمان بكلام الله دونما ضرورة ولا موجب . وتبين له أن الله إنما يزين الأرض بما عليها من وسائل الحياة والاستمتاع لاختبار أعمال الناس فيها ، وإنه لسوف يجعلها قاحلة يابسة لا زينة فيها ولا حياة ولا وسائل ولا نبات ولا شجر .

والقسمان متصلان ببعضهما ، من حيث كون الأول في بيان مهمة النبي صلى الله عليه وسلم ، والثاني في تطمينه وتسليته . والمتبادر أن التنديد بالذين ينسبون إلى الله الولد موجه إلى مشركي العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله مما احتوت الإشارة إليه والحملة عليهم بسببه آيات قرآنية كثيرة مرّ كثير منها .

وفحوى الآية [ 4 ] ثم الآية [ 5 ] هو الذي جعلنا نرجح أن التنديد والإنذار موجهان لمشركي العرب دون النصارى ، وهؤلاء هم موضوع إنذار وتنديد آخرين في السورة وهذا مما يقوي ذلك .

والآيتان الأخيرتان بخاصة تدعيم لتطمين النبي صلى الله عليه وسلم ، فليس هو إلا نذير ، والدنيا للناس هي دار اختبار ولسوف تزول ويرجع الناس إلى الله بعدها .

ويلحظ أن السورة السابقة انتهت بتقرير كون النبي صلى الله عليه وسلم غير مسؤول عن كفر الكفار وليس مكلفا بإجبارهم ، وأنهم راجعون إليه ، وأن هذه السورة ابتدأت بتدعيم هذه المعاني ، مما يمكن أن يكون فيه قرينة على صحة ترتيب النزول .

وينطوي في جملة { لِنبلوهم أيهم أحسن عملا 7 } تقرير كون الله عز وجل قد أودع في الناس قابلية الاختيار والكسب ، وبيّن لهم طريق الخير والعمل الحسن وعكسها ، وحمّلهم مسؤولية اختيارهم وأعمالهم . وهو ما قررته آيات كثيرة أخرى . منها ما جاء بعبارة مماثلة لهذه العبارة ، ومنها ما جاء بعبارة مغايرة ، وقد مرّ من ذلك أمثلة عديدة بحيث يصح القول : إن هذا من الأصول القرآنية المحكمة . وقد علقنا على عبارة مماثلة لها وردت في سورة هود فليرجع إليه القارئ ثانية ليستوعب مدى الآية .