التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{لَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ أَلَّا يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ} (3)

باخع نفسك : مهلك نفسك . وأصل البخع الذبح حتى يبلغ البخاع الذي هو عرق في العنق ، على ما جاء في الكشاف .

{ طسم 1 تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ 2 لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ 3 إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ 4 ومَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمان مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ 5 فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون 6 أَولَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ 7 إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً ومَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ 8 وإِنَّ رَبَّكَ لَهُو الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ 9 } [ 1 9 ]

تعليقات على الآيات التسع الأولى من السورة

تعددت روايات المفسرين عن أهل التأويل الأولين في ( طسم ) منها أنها اسم للقرآن . أو اسم لله تعالى ، أو قسم أقسمه الله بطوْله وسنائه وملكه . وكما رجحنا بالنسبة للحروف المماثلة في مطالع السور نرجح هنا أنها جاءت لاسترعاء السمع ، وقد احتوت الآية التالية إشارة إلى آيات القرآن جريا على النظم القرآني في معظم السور المماثلة . وينطوي في الإشارة معنى التوكيد بالخطورة والتنويه . ووصف المبين فيها هو بسبيل بيان ما في القرآن من إبانة وتوضيح ووضوح . وقد تكرر هذا الوصف لآيات القرآن والقرآن . والوصف يحتمل أن يكون بقصد بيان وضوح المعاني والدلالات كما يحتمل أن يكون بقصد بيان ما احتوته الآيات القرآنية من تبيين لسبل الحق والرشاد والهدى . وكلا الاحتمالين وارد وصادق . بل إن الاحتمالين واردان وصادقان . ففي الآيات القرآنية وضوح من حيث المعاني والدلالات كما فيها بيان لسبل الحق والرشاد والهدى .

والآية الثالثة بسبيل تسلية النبي صلى الله عليه وسلم فيما يثيره جحود قومه في نفسه من غمّ وحزن . وأسلوبها ينطوي على العطف والتحبب . فلا ينبغي له أن يهلك نفسه غمّا وحزنا لعدم إيمانهم واستجابتهم إلى دعوته وتصديقهم بآيات الله وقرآنه . وقد يكون في الآية قرينة على صحة نزولها بعد سورة الواقعة التي ظلت فصولها تحكي تكذيبهم وجحودهم .

والآية الرابعة هي بسبيل التطمين من جهة وإنذار الكفار من جهة أخرى ، حيث تقرر أن الله تعالى لو أراد لأنزل عليهم آية من السماء فتظل أعناقهم خاضعة لها . ومن المفسرين من أول جملة { فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ 4 } في الآية بأن الله لو أراد لأجبرهم على الإيمان بآية ينزلها عليهم من السماء{[1562]} . ومنهم من أولها بأن الله لو أراد لأنزل عليهم نازلة تذلّ لها أعناقهم{[1563]} . ومع ما في القول الأول من وجاهة ، فإن الآيات التالية ترجح القول الثاني حيث احتوت وصف عناد الكفار واستهزائهم وأنذرتهم بعذاب الله وعقابه .

وفي الآية الخامسة تنديد بالكفار الذين كلما جاءهم قرآن جديد من الله أعرضوا عنه وكذبوه .

وقد قال المفسرون في تأويل الآية السادسة : إنها بسبيل إنذار الكفار ووعيدهم بالعقاب على استهزائهم بآيات الله وتكذيبهم لها . وقد خطر لبالنا احتمال انطوائها على بشرى وتطمين من الله تعالى للنبي عليه السلام استلهاما من ألفاظها واستئناسا بآيات أخرى ، حيث تقرر أن الدعوة المحمدية التي يستهزئون بها ستنتصر ، ويرون أعلام ذلك ويسمعون أنباء . ومن الآيات التي يمكن أن يُستأنس بها على هذا التأويل آية سورة ص هذه { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ومَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ 86إِنْ هُو إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ 87 ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ 88 } .

وفي الآية السابعة سؤال استنكاري وتنديدي عمّا إذا كانوا لم يروا ما أنبته الله تعالى في الأرض من أصناف النباتات الكريمة ؛ مما فيه برهان على ربوبيته وعظمته واستحقاقه وحده للعبادة والخضوع .

وفي الآية الثامنة تعقيب على هذا السؤال بأن في ذلك الحجة الدامغة برغم أن أكثرهم لا يؤمنون .

أما الآية التاسعة فهي موجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم عودا على بدء بسبيل تسليته . فربّه هو العزيز القاهر الذي لا يعجزه شيء ، والرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء . وكأنما انطوت على تقرير كونه قادرا على سحق الكفار وإخضاعهم غير أن حكمته ورحمته اقتضتا عدم التعجيل بذلك وإفساح رحمته لهم لعلهم يرعوون . ولقد ارعوت أكثريتهم الساحقة حقّا بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأيده الله ونصره .

وقد غدت الآيتان لازمة لمعظم فصول السورة حيث تكررتا عقب كل فصل لنفس القصد والهدف . وفي ذلك أيضا صورة من صور النظم القرآني التي تكررت في بعض سور أخرى .

ولقد أورد الزمخشري في كشافه والمفسر الشيعي الطبرسي في تفسيره في سياق تفسير الآيات رواية عن ابن عباس مفادها أن بعض هذه الآيات وخاصة { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ4 } في بني هاشم وبني أمية حيث انطوت على البشرى للأولين ضد الآخرين ، والتكلف وأثر الحزبية السياسة المتأخرة كثيرا عن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهران في الرواية . ولا نرتاب في أنها مكذوبة على ابن عباس رضي الله عنه . ولاسيما إن الآيات نزلت قبل أن يؤمن من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم الأقربين إلاّ أفراد قلائل جدّا ، كما أن أسلوبها مماثل للأساليب المتكررة في صدد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وإنذار الكفار . ومن المؤسف أن أصحاب الأهواء وخاصة شيعة العلويين ومفسريهم أكثروا من رواية مثل هذه الروايات وتأويل كثير من الآيات بما يتفق مع أهوائهم برغم ما يكون في التأويل من مفارقة ومباينة للوقائع وفحوى الآيات وسياقها ومناسبتها .

تعليق على كلمة " محدث " في الآيات

ويقف علماء الكلام عند كلمة ( محدث ) فيتخذها بعضهم دليلا على حدوث القرآن ويؤولها بعضهم بما يجعل هذا الاستدلال في غير محلّه ؛ لأنه يؤدي في رأيهم إلى القول بأن القرآن حدث ومخلوق وهو كلام الله والكلام من صفات الله القديمة بقدمه التي لا يصح عليها حدوث وخلق .

والكلمة في مقامها واضحة الدلالة على أنها قصدت معنى ( آيات جديدة النزول من القرآن ) ولا تقتضي إثارة المعنى الذي أريد الجدل حوله . وقد أرجأنا شرح الخلاف الكلامي في صدد خلق القرآن وعدم خلقه إلى سورة التوبة التي فيها آية تفيد أن القرآن كلام الله لأن المناسبة فيها قائمة أكثر .


[1562]:انظر تفسير الآيات في ابن كثير مثلا.
[1563]:انظر تفسيرها في الطبري مثلا.