الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَخۡشَ ٱللَّهَ وَيَتَّقۡهِ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ} (52)

قوله : { وَيَتَّقْهِ } : القُرَّاءُ فيه بالنسبةِ إلى القافِ على مرتبتين : الأُولى تسكينُ القافِ ، ولم يَقْرأ بها إلاَّ حفصٌ ، والباقون بكسرِها وأمَّا بالنسبةِ إلى هاءِ الكنايةِ فهي على خمسِ مراتبَ : الأولى تحريكُها مفصولة قولاً واحداً ، وبها قرأ ورشٌ وابن ذكوان وخلف وابن كثير والكسائي . الثانيةُ : تسكينُها قولاً واحداً . وبها قرأ أبو عمروٍ وأبو بكر عن عاصم . الثالثةُ : إسكانُ الهاءِ أو وَصْلُها بياءٍ وبها قرأ خَلاَّدُ . الرابعةُ : تحريكها من غير صلةٍ . وبها قرأ قالون وحفص . الخامسةُ : تحريكُها موصولةً أو مقصورةً . وبها قرأ هشامٌ .

فأمَّا إسكانُ الهاءِ وقَصْرُها وإشباعُها فقد مَرَّ تحقيقُها مستوفىً في مواضعَ من هذا التصنيفِ . وأمَّا تسكينُ القافِ فإنهم حَمَلوا المنفصِلَ على المتصلِ : وذلك أنهم يُسَكِّنون عين فَعِل فيقولون : كَبْد وكَتْف وصَبْر في : كَبِد وكَتِف وصَبِر ، لأنها كلمةٌ واحدة ، ثم أُجْريَ ما أشبَه ذلك من المنفصل مُجْرى المتصل ؛ فإنَّ " يَتَّقْهِ " صار منه " تَقِهِ " بمنزلة " كَتِف " فَسُكِّن كما تُسَكَّن . ومنه :

قالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لنا سَوِيقا ***

بسكونِ الراءِ ، كما سَكَّن الآخرُ :

فبات مُنْتَصْباً وما تَكَرْدَسا ***

والآخر :

عَجِبْتَ لمَوْلُودٍ وليسَ له أَبُ *** وذي وَلَدٍ لم يَلْدَهُ أبوان

يريد : مُنْتَصِباً ، ولم يَلِدْه . وقد تَقَدَّم في أولِ البقرةِ تحريرُ هذا الضابطِ في قوله : { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ } [ الآية : 74 ] ، وهي وهو ونحوها .

وقال مكي : " كان يجبُ على مَنْ أسكن القاف أَنْ يَضُمَّ الهاءَ ؛ لأنَّ هاءَ الكنايةِ إذا سَكَن ما قبلها ، ولم يكنْ الساكنُ ياءً ضُمَّتْ نحو : مِنْهُ وعَنْهُ . ولكن لمَّا كان سكونُ القافِ عارضاً لم يُعْتَدَّ به ، وأبقى الهاءَ على كسرتِها التي كانت عليها مع كسرِ القافِ ، ولم يَصِلْها بياءٍ ، لأنَّ الياءَ المحذوفةَ قبل الهاءِ مقدرةٌ مَنْويَّةٌ ، فبقي الحذفُ الذي في الياءِ قبل الهاءِ على أصلِه " . وقال الفارسي : " الكسرةُ في الهاءِ لالتقاءِ الساكنين ، وليسَتْ/ الكسرةَ التي قبل الصلةِ ؛ وذلك أنَّ هاءَ الكنايةِ ساكنةٌ في قراءتِه ، ولمَّا أُجْرِيَ " تَقْهِ " مجرى " كَتْف " وسكَّن القافَ التقى ساكنان ، ولَمَّا التَقَيا اضْطُرَّ إلى تحريكِ أحدِهما : فإمَّا أَنْ يُحَرِّكَ الأولَ أو الثاني . لا سبيلَ إلى تحريكِ الأولِ لأنه يعودُ إلى ما فَرَّ منه وهو ثِقَلُ فَعِل فحرَّك ثانيهما . وأصلُ التقاءِ الساكنين [ الكسر ] فلذلك كسرَ الهاءَ ويؤيِّدهُ قولُه : . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . لم يَلْدَه أَبَوانِ

وذلك أنَّ أصلَه " لَمْ يلِده " بكسرِ اللام وسكونِ الدال للجزمِ ، ثم لَمَّا سَكَّن اللامَ التقى ساكنان ، فلو حَرَّك الأولَ لعادَ إلى ما فَرَّ منه ، فحَرَّك ثانيهما وهو الدالُ وحَرَّكَها بالفتحِ ، وإنْ كان على خلافِ أصلِ التقاءِ الساكنين مراعاةً لفتحةِ الياءِ .

وقد رَدَّ القاسم بن فيره قولَ الفارسي ويقول : " لا يَصِحُّ قولُه : إنه كسر الهاءَ لالتقاءِ الساكنين ؛ لأنَّ حفصاً يُسَكِّن الهاءَ في قراءتِه قط " .

وقد رَدَّ أبو عبد الله شارحُ قصيدتِه هذا الردَّ وقال : " وعجبتُ مِنْ نَفْيِه الإِسكانَ عنه مع ثبوتِه عنه في " أَرْجِهْ " و " فَأَلْقِهْ " وإذا قرأه في " أَرْجِهْ " و " فَأَلْقِهْ " احتمل أن يَكونَ " يَتَّقْهِ " عنده قبل سكون القاف كذلك ، وربما تَرَجَّح ذلك بما ثَبَتَ عن عاصم مِنْ قراءته إياه بسكونِ الهاء مع كسرِ القاف " .

قلت : لم يَعْنِ الشاطبي بأنه لم يُسَكِّنِ الهاءَ قط ، الهاء من حيث هي هي ، وإنما عَنَى هاءَ " يَتَّقْهِ " بخصوصِها . وكان الشاطبيُّ أيضاً يعترض التوجيهَ الذي قدَّمْتُه عن مكيّ ويقولُ : " تعليلُه حَذْفَ الصلةِ : بأنَّ الياءَ المحذوفةَ قبل الهاء مقدرةٌ مَنْوِيَّةٌ فبقي في حَذْفِ الصلةِ بعد الهاءِ على أصلِه ، غيرُ مستقيم مِنْ قِبَلِ أنه قرأ " يُؤَدِّهي " وشبهِه بالصلة ، ولو كان يَعْتَبِرُ ما قاله من تقدير الياءِ قبل الهاءِ لم يَصِلْها . قال أبو عبد الله : " وهو وإنْ قَرَأ " يؤدِّهي " وشِبْهَه بالصلةِ فإنه قرأ " يَرْضَهُ " بغيرِ صلةٍ فألحقَ مكي " يَتَّقْهِ " ب " يَرْضَهُ " وجعله ممَّا خَرَجَ فيه عن نظائرِه لاتِّباع الأثَرِ والجمعِ بين اللغتين . وترجَّح ذلك عنده لأنَّ اللفظَ عليه . وَلَمَّا كانت القافُ في حكمِ المكسورةِ بدليلِ كسرِ القافِ بعدَها صار كأنه " يَتَّقِهِ " بكسرِ القافِ والهاء من غيرِ صلةٍ كقراءةِ قالون وهشام في أحدِ وجهَيْه ، فَعَلَّله بما يُعَلِّلُ به قراءتَهما . والشاطبيُّ ترجَّح عنده حَمْلُه على الأكثرِ ممَّا قَرَأَ به ، لا على ما قَلَّ ونَدَر ، فاقتضى تعليلَه بما ذكَرَ .