الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِنۡ أَمَرۡتَهُمۡ لَيَخۡرُجُنَّۖ قُل لَّا تُقۡسِمُواْۖ طَاعَةٞ مَّعۡرُوفَةٌۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ} (53)

قوله : { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوبٌ على المصدرِ بدلاً من اللفظِ بفعلِه إذ أَصْلُ " أُقْسِمُ باللهِ جَهْدَ اليمين " : أُقْسِمُ بجَهْدِ اليمينِ جَهْداً ، فَحُذِفَ الفعلُ وقُدِّمَ المصدرُ موضوعاً مَوْضِعَه مضافاً إلى المفعولِ ك { ضَرْبَ الرِّقَابِ } [ محمد : 4 ] ، قاله الزمخشري . والثاني أنه حالٌ تقديرُه : مجتهدين في أَيْمانِهم كقولِهم : أفعَلْ ذلك جَهْدَك وطاقَتَك . وقد خلَطَ الزمخشري الوجهين فجعلهما وجهاً واحداً فقال بعدَ ما قَدَّمْتُه عنه : " وحكمُ هذا المنصوبِ حكمُ الحالِ كأنه قيل : جاهدين أَيْمانَهم " . وقد تقدَّم الكلامُ على { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } [ الآية : 53 ] في المائدة .

قوله : { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } في رفعِها ثلاثةُ أوجهٍ . أحدُها : أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه : أمرُنا طاعةٌ أو المطلوبُ طاعةٌ . الثاني : أنها مبتدأٌ ، والخبرُ محذوفٌ أي : أَمْثَلُ ، أو أَوْلَى . وقد تقدَّمَ أنَّ الخبرَ متى كان في الأصلِ مصدراً بدلاً من اللفظِ بفعلِه وَجَبَ حَذْفُ مبتدئِه كقولِه : { صَبْرٌ جَمِيلٌ } [ يوسف : 18 ] ولا يَبْرز إلاَّ اضطراراً كقوله :

فقالَتْ على اسمِ اللهِ أَمرُك طاعةٌ *** وإنْ كُنْتُ قد كُلِّفتُ ما لم أُعَوَّدِ

على خلافٍ في ذلك . والثالث : أَنْ تكونَ فاعلةً بفعلٍ محذوفٍ أي : ولْتَكُنْ طاعةٌ ولْتُوْجَدْ طاعةٌ . واستُضْعِفَ ذلك : بأنَّ الفعلَ لا يُحْذَفُ إلاَّ إذا تَقَدَّم مُشْعِرٌ به كقوله : { يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ } [ النور : 36 ] . / في قراءةِ مَنْ بناه للمفعولِ أي : يُسَبِّحه رجالٌ أو يُجاب به نَفْيٌ كقولِكَ : " بلى زيدٌ " لمَنْ قال : لم يقم أحدٌ ، أو استفهامٌ كقوله :

ألا هَلْ أتى أمَّ الحُوَيْرِثِ مُرْسَلٌ *** بلى خالد إنْ لم تُعِقْه العَوائقُ

والعامَّةُ على رفعِ " طاعةٌ " على ما تقدَّم . وزيد بن علي واليزيديُّ على نَصبِها بفعلٍ مضمرٍ ، وهو الأصلُ . قال أبو البقاء " ولو قُرِىء بالنصبِ لكانَ جائزاً في العربية ، وذلك على المصدرِ أي : أَطِيْعوا طاعةً وقولوا قولاً . وقد دَلَّ عليه قولُه تعالى بعدَها { قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ } . قلت ما وَدَّ أن يُقرأَ به قد قُرِىء به كما تقدَّم نَقْلُه . وأمَّا قولُه : و { قُولُواْ قَوْلاً } فكأنه سَبَق لِسانُه إلى آية القتال وهي : { فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ }

[ محمد : 21 ] ولكن النصبَ هناك ممتنعٌ أو بعيدٌ .