الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيۡهِم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمُبۡلِسِينَ} (49)

قوله : { مِّن قَبْلِهِ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه تكريرٌ ل " مِنْ قَبلِ " الأولى على سبيلِ التوكيد . والثاني : أَنْ يكونَ غيرَ مكررٍ . وذلك أن يُجعلَ الضميرُ في " قَبْله " للسحاب . وجاز ذلك لأنه اسمُ جنسٍ يجوز تذكيرُه وتأنيثُه ، أو للريح ، فتتعلَّقُ " مِنْ " الثانيةُ ب " يُنَزَّل " . وقيل : يجوزُ عَوْدُ الضمير على " كِسَفا " كذا أطلق أبو البقاء . والشيخ قَيَّده بقراءةِ مَنْ سَكَّن السين . وقد تقدَّمَتْ قراءاتُ " كِسَفاً " في " سبحان " . وللناس في هذا الموضعِ كلامٌ كثيرٌ رأيتُ ذِكْرَه لتوضيحِ معناه .

وقد أبْدى كلٌّ من الشيخَيْن : الزمخشريِّ وابنِ عطية فائدةَ التأكيدِ المذكور . فقال ابن عطية : " أفادَ الإِعلامَ بسرعةِ تَقَلُّب قلوبِ البشر من الإِبلاسِ إلى الاستبشار ؛ وذلك أن قولَه { مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } يحتملُ الفُسْحَةَ في الزمانِ ، أي : من قبلِ أَنْ يُنَزِّل بكثيرٍ كالأيَّامِ ونحوِه فجاء " مِنْ قبله " ، بمعنى أنَّ ذلك متصلٌ بالمطر فهو تأكيدٌ مفيدٌ " .

وقال الزمخشري : " ومعنى التوكيد فيه الدلالةُ على أن عَهْدَهم بالمطرِ قد بَعُدَ فاسْتحكم يَأْسُهم وتمادَى إبْلاسُهم ، فكان استبشارُهم على قَدْرِ اغتمامهم بذلك " . وهو كلامٌ حسنٌ .

إلاَّ أنَّ الشيخَ لم يَرْتَضِه منهما فقال : " ما ذكراه من فائدةِ التأكيدِ غيرُ ظاهرٍ ، وإنما هو لمجرَّدِ التوكيد ويُفيد رَفْعَ المجازِ فقط " . انتهى . ولا أدري عدمُ الظهورِ لماذا ؟ وقال قطرب : " وإن كانوا مِنْ قبلِ التنزيل مِنْ قبل المطَر . وقيل : التقديرُ مِنْ قبلِ إنزالِ المطرِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَزْرعوا . ودَلَّ المطرُ على الزرع ؛ لأنه يَخْرج بسببِ المطر . ودلَّ على ذلك قولُه " فَرَأَوْه مُصْفَرَّاً " يعني الزرعَ ؛ قال الشيخ : " وهذا لا يَسْتقيم ؛ لأنَّ { مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ } متعلِّقٌ ب " مُبْلِسِيْن " ولا يمكن مِنْ قَبْل الزَّرْع أَنْ يتعلَّقَ بمُبْلِسين ؛ لأنَّ حرفَيْ جرّ لا يتعلَّقان بعاملٍ واحدٍ إلاَّ بوساطةِ حرفِ العطف أو البدلِ ، وليس هنا عطفٌ والبدلُ لا يَجوز ؛ إذ إنزالُ الغيثِ ليس هو الزرعَ ولا الزرعُ بعضَه . وقد يُتَخَيَّلُ فيه بدلُ الاشتمالِ بتكلُّفٍ : إمَّا لاشتمالِ الإِنزالِ على الزَّرْع ، بمعنى : أنَّ الزرعَ يكون ناشِئاً عن الإِنزال ، فكأن الإِنزالَ مُشْتملٌ عليه . وهذا على مذهبِ مَنْ يقول : الأولُ مشتملٌ على الثاني " .

وقال المبردُ : " الثاني السحابُ ؛ لأنهم لَمَّا رَأَوْا السحابَ كانوا راجين المطرَ " انتهى . يريد مِنْ قبل رؤيةِ السحاب . ويحتاج أيضاً إلى حَرْفِ عطفٍ ليصِحَّ تعلُّقُ الحرفين ب " مُبْلِسين " . وقال الرمَّاني : " من قبلِ الإِرسال " . والكرماني : " من قَبْلِ الاستبشارِ ؛ لأنه قَرَنه بالإِبلاس ، ولأنه مَنَّ عليهم بالاستبشار " . ويحتاج قولُهما إلى حرفِ العطفِ لِما تقدَّم ، وادِّعاءُ حرفِ العطفِ ليس بالسهلِ ؛ فإنَّ فيه خلافاً : بعضُهم يَقيسُه ، وبعضُهم لا يقيسه . هذا كلُّهُ في المفردات . أمَّا إذا كان في الجمل فلا خلافَ في اقتياسِه .