الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قُلۡ أَتَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَمۡلِكُ لَكُمۡ ضَرّٗا وَلَا نَفۡعٗاۚ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (76)

قوله تعالى : { مَا لاَ يَمْلِكُ } : يجوز أن تكونَ " ما " بمعنى الذي ، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً ، والجملةُ بعدها صلةٌ فلا محلَّ لها ، و صفةٌ فمحلُّها النصبُ ، وفي وقوعِ " ما " على العاقلِ هنا لأنه أُريد به عيسى وأمُّه وجوهٌ ، أحدها : أنه أُتِي ب " ما " مراداً به العاقلُ لأنها مبهمةٌ تقعُ على كل شيء ، كذا قالَه سيبويه ، أو أُريد به النوعُ كقوله : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ } [ النساء : 3 ] أي : النوعَ الطيب ، أو أُريد به العاقلُ مع غيره لأنَّ أكثرَ ما عُبِد مِنْ دونَ [ اللَّهِ ] غيرُ عاقلٍ كالأصنامِ والأوثانِ والكواكبِ والشجرِ ، أو شبهُهُ على أولِ أحوالِه ، لأنه في أولِ حالِه لا يُوصَفُ بعقلٍ فيكف يُتَّخذ إلهاً معبوداً ؟ وفي تكريرِ الأمر بقوله : " انظُرْ " " ثم انظر " دلالةٌ على الاهتمام بالنظر ، وأيضاً فقد اختَلف متعلَّقُ النظرين ، فإنَّ الأولَ أمرٌ بالنظر في كيفية إيضاح الله تعالى لهم الآياتِ وبيانِها بحيث إنه لا شكَّ فيها ولا ريبَ ، والأمرُ الثاني بالنظر في كونِهم صُرِفوا عن تدبُّرها والإِيمان بها ، أو بكونِهم قُلِبوا عمَّا أُريد بهم . قال الزمخشري : " فإنْ قتل : ما معنى التراخي في قولِه : " ثم انظرْ " ؟ قلت : معناه ما بينَ التعجبين ، يعني أنه بَيَّن لهم الآياتِ بياناً عجباً ، وأنَّ إعراضَهم عنها أعجُب منه " انتهى . يعني أنه من بابِ التراخي في الرُّتَبِ لا في الأزمنةِ ، ونحوُه :

{ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] وسيأتي .

قوله : { وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } " هو " : يجوزُ أن يكونَ مبتدأ ثانياً ، و " السميعُ " خبرُه ، و " العليمُ " خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ ، والجملةُ خبرُ الأول ، ويجوزُ أَنْ يكونَ فصلاً ، وقد عُرِف ما فيه ، ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً . وهذه الجملةُ الظاهرُ فيها أنها لا محلَّ لها من الإِعراب ، ويحتمل أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعلِ " تَعْبُدون " أي : أتعبدون غيرَ الله والحالُ أن الله هو المستحقُّ للعبادة لأنه يَسْمع كل شيء ويعلمه ، وإليه ينحو كلامُ الزمخشري فإن قال : { وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } متعلق ب " أتعبدون " أي : أتشركون بالله ولا تَخْشَوْنه ، وهو الذي يسمع ما تقولون ويعلم ما تعتقدون ؟ أتعبدون العاجزَ واللَّهُ هو السميع العليم ؟ انتهى . والرابطُ بين الحالِ وصاحبِها الواوُ ، ومجيءُ هاتين الصفتين بعد هذا الكلام في غاية المناسبة ، فإنَّ السميع يسمع ما يُشْكَى إليه من الضُّرِّ وطلب النفع ويعلم مواقعَهما كيف يكونان ؟