اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ أَتَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَمۡلِكُ لَكُمۡ ضَرّٗا وَلَا نَفۡعٗاۚ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (76)

وهذا دَلِيلٌ أيضاً على فَسَادِ قول النَّصارَى وذلك من وُجُوهٍ :

الأوَّلُ : أنَّ اليَهُود كانوا يعادُونَ عيسى - عليه الصلاة والسلام - ، ويَقْصُدُونَهُ بالسُّوءِ ، فما قَدرَ على إضْرَارِهِمْ ، وكان له أيضاً أنْصَارٌ وصَحَابَةٌ يُحِبُّونَهُ ، فما قَدَرَ على إيصَالِ نَفْعٍ من منَافِعِ الدُّنْيَا إليْهِمْ ، والعاجِزُ عن الإضْرار والنَّفْعِ كَيْفَ يُعْقَلُ أن يكُون إلهاً ؟ !

الثاني : أن مذْهَبَ النَّصَارى - لعنهم اللَّهُ - : أنَّ اليهود صَلَبُوه ومَزَّقُوا أضْلاَعَهُ ، ولما عَطِشَ وطلبَ الماءَ مِنْهُم صبُّوا الخَلَّ فِي مَنخريْهِ ، ومن كان في الضَّعْفِ هكذَا ، كَيْفَ يُعْقَل أن يكُون إلهاً ؟ !

الثالث : أنَّ إلهَ العالم يَجِبُ أنْ يكُون غَنِيًّا عن كل ما سواهُ مُحْتَاجاً إليه ، فلو كان عيسَى كذلك لامْتَنَعَ كَوْنُهُ مَشْغُولاً بعبادة الله تعالى ؛ لأنَّ الإله لا يَعْبُدُ شَيْئاً ، إنَّمَا العبد هو الذي يَعْبُدُ الإله ، فلما عُرِفَ بالتَّوَاتُرِ أنَّهُ كانَ مُوَاظِباً على الطَّاعَات والعبادَاتِ ، عَلِمْنَا أنَّهُ كان يفعلها لكونه مُحْتَاجاً في تَحْصِيل المَنَافِعِ ، ودفْعِ المضَارِّ إلى غيره ، ومن كان كذلك كيْفَ يَقْدِرُ على إيصال المَنَافِعِ إلى العِبَادِ ، ودَفْعِ المضارّ عنهم ؟ ! وإذَا كان كذِلكَ كان عَبْداً كَسَائِرِ العَبيدِ ، وهذا هو عَيْنُ الدَّليلِ الذي حَكَاهُ اللَّهُ تعالى عن إبراهيم - عليه السلام - حيث قال : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] .

قوله تعالى : { مَا لاَ يَمْلِكُ } : يجوزُ أن تكون " مَا " بمعنى " الَّذِي " ، وأن تكون نكرةً موصوفةً ، والجملةُ بعدها صلةٌ ، فلا محلَّ لها ، أو صفةٌ ، فمحلُّها النصبُ ، وفي وقوع " مَا " على العاقلِ هنا ؛ لأنه أُريد به عيسَى وأمُّه وجوهٌ :

أحدها : أنه أُتِي ب " مَا " مراداً بها العاقلُ ؛ لأنها مبهمةٌ تقعُ على كل شيء ، كذا قاله سيبويه{[12377]} ، أو أُريد به النوعُ ؛ كقوله : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ } [ النساء : 3 ] ، أي : النوع الطَّيِّبَ ، أو أُريدَ به العاقلُ مع غيره ؛ لأنَّ أكثر ما عبد من دون اللَّهِ غيرُ عاقلٍ ؛ كالأصنامِ والأوثانِ والكواكبِ والشَّجَرِ ، أو شبهُهُ على أولِ أحواله ؛ لأنه في أولِ حاله لا يُوصفُ بعقلٍ ، فكيف يُتَّخَذ إلهاً معبوداً ؟

قوله تعالى : { وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } " هو " : يجوزُ أن يكون مبتدأ ثانياً ، و " السَّميعُ " خبرُه ، و " العَلِيمُ " خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ ، والجملة خبرُ الأوَّل ، ويجوزُ أن يكون فَصْلاً ، وقد عُرِفَ ما فيه ، ويجوزُ أن يكونَ بدلاً ، وهذه الجملةُ الظاهرُ فيها : أنها لا محلَّ لها من الإعراب ، ويحتمل أن يكون في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من فاعلِ " تَعْبُدونَ " ، أي : أتعبُدُونَ غير الله ، والحالُ أن الله هو المستحقُّ للعبادة ؛ لأنه يَسْمَعُ كلَّ شيء ويعلمه ، وإليه ينحو كلامُ الزمخشريِّ ؛ فإنه قال : { وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } متعلِّق ب " أتَعْبُدُونَ " ، أي : أتشركون بالله ولا تَخْشَوْنَهُ ، وهو الذي يسمَعُ ما تقولُونَ ويعلَمُ ما تعتقدُونَ ؟ أتعبدون العاجزَ ، واللَّهُ هو السميعُ العَلِيم ؟ . انتهى ، والرابطُ بين الحالِ وصاحبها الواوُ ، ومجيء هاتين الصفتين بعد هذا الكلام في غاية المناسبة ؛ فإنَّ السميع يسمع ما يُشْكَى إليه من الضُّرِّ وطلب النفْعِ ، ويعلم مواقعهما كيف يكُونَانَ ؟


[12377]:ينظر: الكتاب 2/309.