الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلَٰثَةٖۘ وَمَا مِنۡ إِلَٰهٍ إِلَّآ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۚ وَإِن لَّمۡ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (73)

قوله تعالى : { ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } : معناه أحدُ الثلاثة ، ولذلك منع الجمهورُ أن يُنْصَبَ ما بعده ، لا تقول : ثالثٌ ثلاثةً ولا رابعٌ أربعةً ، قالوا : لأنه اسمُ فاعلٍ ويعملُ عمل فعله ، وهنا لا يقع موقعَه فعلٌ فعلٌ إذ لا يقال : ربَّعْتُ الأربعة ولا ثلَّثْتُ الثلاثة ، وأيضاً فإنه أحدُ الثلاثة فيلزم أن يعمل في نفسه ، وأجاز النصبَ بمثل هذا ثعلب ، وردَّه عليه الجمهور بما ذكرته لك ، أمَّا إذا كان من غيرِ لفظِ ما بعده فإنه يجوزُ فيه الوجهان : النصب والإِضافة نحو : رابعٌ ثلاثةَ ، وإن شئت : ثلاثةٍ . واعلم أنه يجوز أن يُشتقَّ من واحد إلى عشرة صيغةُ اسمِ فاعل نحو : " واحد " ويجوز قبله فيقال : حادي وثاني وثالث إلى عاشر ، وحينئذ يجوز أن يستعمل مفرداً فيقال :ثالث ورابع ، كما يقال : ثلاثة وأربعة من غير ذكر مفسرٍ ، وأن يستعملَ استعمالَ أسماءِ الفاعلين إنْ وقع بعده مغايرُه لفظاً ، ولا يكونُ إلا ما دونه برتبةٍ واحدٍ نحو عاشرُ تسعةٍ ، وتاسعُ ثمانيةٍ ، فلا يجامعُ ما دونَه برتبتين نحو : عاشرُ ثمانيةٍ ولا ثامنُ أربعةٍ ، ولا يُجامِعُ ما فوقه مطلقاً فلا يقال : تاسعُ عشرةٍ ولا رابعُ ستةٍ ، إذا تقرر ذلك فيعطى حكمَ اسمَ الفاعلِ فلا يعملُ إلا بشروطه ، وأمَّا إذا جامع موافقاً له لفظاً وجبت إضافتُه نحو : ثالثُ ثلاثةٍ وثاني اثنين ، وتقدَّم خلاف ثعلب ، ويجوز أن يُبْنى أيضاً من احد عشر إلى تسعة عشر فيقال : حادي عشر وثالث عشر ، ويجوز أَنْ يُستعمل مفرداً كما ذكَرْتُه لك ، ويجوز أن يُسْتَعْمل مجامعاً لغيره ولا يكونُ إلا موافقاً ، فيقال : حادي عشر أحد عشرَ ، وثالثَ عشرَ ثلاثَة عشرَ ، ولا يقال : ثالثَ عشرَ اثني عشرَ ، وإن كا بعضهم خالف ، وحكمُ المؤنثِ كحكمِه في الصفاتِ الصريحةِ فيقال : ثالثة ورابعة ، وحاديةَ عشرةَ ، وثالثةَ عشرةَ ثلاثَ عشرةَ ، وله أحكامٌ كثيرة استوفيتُها في " شرح التسهيل " .

قوله : { وَمَا مِنْ إِلَهٍ } " مِنْ " زائدة في المبتدأ لوجود الشرطين ، وهما كونُ الكلامِ غيرَ إيجابٍ ، وتنكيرُ ما جَرَّتْهُ ، و " إلهٌ " بدل من محل " إلهٍ " المجرورِ ب " مِنْ " الاستغراقية ، لأن محلَّه رفعٌ كما تقدم ، والتقدير : وما إلهٌ في الوجودِ إلا إلهٌ متصفٌ بالواحدانية . قال الزمخشري : " من " في قوله : " مِنْ إله " للاستغراقِ ، وهي المقدرةُ مع " لا " التي لنفي الجنس في قولك : " لا إلهَ إلا اللَّهُ " والمعنى ، وما من إله قط في الوجود إلا إلهٌ متصفٌ بالوحدانية وهو الله تعالى " . فقد تحصَّل مِنْ هذا أن " مِنْ إله " وخبرُه محذوفٌ ، و " إلا إلهٌ " بدلٌ على المحل . قال مكي : " ويجوزُ في الكلام النصبُ : " إلا إلهاً " على الاستثناء " قال أبو البقاء ولو " قُرئ بالجرِّ بدلاً من لفظ " إله " لكان جائزاً في العربية " قتل : ليس كما قال ، لأنه يلزمُ زيادةُ " مِنْ " في الواجب ، لأن النفيَ انتقضَ ب " إلاَّ " لو قلت : " ما قامَ إلا من رجلٍ " لم يَجُزْ فكذا هذا ، وإنما يجوزُ ذلك على رأي الكوفيين والأخفشِ ، فإنَّ الكوفيين يشترطون تنكيرَ مجرورها فقط ، والأخفشُ لا يشترط شيئاً .

قال مكي : " واختار الكسائي الخفضَ على البدل من لفظ " إله " وهو بعيدٌ لأنَّ " مِنْ " لا تُزَاد في الواجب " . قلت : ولو ذهبَ ذاهبٌ إلى أنَّ قوله " إلا إلهٌ " خبر المبتدأ ، وتكونُ المسألة من الاستثناءِ المفرغِ ، كأنه قيل : ما إلهٌ إلا إلهٌ متصفٌ بالواحدِ لَمَا ظهر له منعٌ ، لكني لم أرَهم قالوه . وفيه مجالٌ للنظر .

قوله : { لَيَمَسَّنَّ } جوابُ قسمٍ محذوفٍ ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالةِ هذا عليه ، والتقديرُ : واللَّهِ إنْ لم ينتهوا ليمسَّنَّ ، وجاء هذا على القاعدةِ التي قَرَّرْتُها : وهو أنه إذا اجتمعَ شرطٌ وقسمٌ أُجيب سابقُهما ما لم يسبقْهما ذو خبر ، وقد يجابُ الشرطُ مطلقاً ، وقد تقدَّم أيضاً أن فعلَ الشرطِ حينئذ لا يكون إلا ماضياً لفظاً ، أو معنًى لا لفظاً كهذه الآية ، فإنْ قيل : السابقُ هنا الشرطُ ، اذ القسمُ مقدرٌ فيكون تقديرُه متأخراً فالجوابُ أنه لو قُصِد تأخُّرُ القسمِ في التقدير لأُجيبَ الشرط ، فلمَّا أُجيب القسمُ عُلِم أنه مقدَّرُ التقديمِ ، وعَبَّر بعضُهم عن هذا فقال : " لام التوطئِة للقسمِ قد تُحْذَفُ ويُراعى حكمُها كهذه الآيةِ ، إذ التقدير : " ولئن لم " كما صَرَّح بهذا في غير موضع كقوله : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ } [ الأحزاب : 60 ] ، ونظيرُ هذه الآية قوله : { وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ } [ الأعراف : 23 ] { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }

[ الأنعام : 121 ] ، وتقدَّم أنَّ هذا النوع من جواب القسم يَجِبُ أن يُتَلَقَّى باللامِ وإحدى النونين عند البصريين ، إلاَّ ما قَدَّمْت لك استثناءَه " قال الزمخشري : " فإنْ قلت : فهلاَّ قيل : لَيَمسُّهُم عذاب . قلت في إقامة الظاهرُ مقامَ المضمرِ فائدةٌ ، وهي تكريرُ الشهادة عليهم بالكفر " .

وقوله : { مِنْهُمْ } في محلِّ نصبٍ على الحال . قال أبو البقاء : " إمَّا من الذين ، وإمَّا من ضميرِ الفاعل في " كفروا " قلت : لم يتغير الحكمُ في المعنى ، لأنَّ الضميرَ الفاعل هو نفسُ الموصول ، وإنما الخلاف لفظي . وقال الزمشخري : " مِنْ " في قوله : { لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ } للبيانِ كالتي في قوله : { فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ } [ الحج : 30 ] قلت : فعلى هذا يتعلقُ " منهم " بمحذوفٍ ، فإنْ قلت : هو على جَعْلِه حالاً متعلقٌ أيضاً بمحذوفٌ . قلت : الفرقُ بينهما أنَّ جَعْلَه حالاً يتعلَّقُ بمحذوفٍ ، ذلك المحذوفُ هو الحالُ في الحقيقة ، وعلى هذا الوجهِ يتعلَّقُ بفعلٍ مفسِّرٍ للموصولِ الأولِ ، كأنه قيل : أعني منهم ، ولا محلِّ ل " أعني " لأنها جملةٌ تفسيرية . وقال الشيخ : " ومِنْ " في " منهم " للتبعيض أي : كائناً منهم ، والربطُ حاصلٌ بالضمير ، فكأنه قيل : كافرُهم ، وليسوا كلَّهم بَقُوا على الكفر " انتهى . يعني : هذا تقديرٌ لكونِها تبعيضيةً وهو معنى كونِها في محلِّ نصبٍ على الحال .