الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{مَّا ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُۥ صِدِّيقَةٞۖ كَانَا يَأۡكُلَانِ ٱلطَّعَامَۗ ٱنظُرۡ كَيۡفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ ثُمَّ ٱنظُرۡ أَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ} (75)

قوله تعالى : { مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ } : كقوله : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ }

[ آل عمران : 144 ] . و " قد خَلَتْ " صفةٌ له كما في الآيةِ الأخرى . وتقدَّم معنى الحصرِ . وقوله : { وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } ابتداءٌ وخبرٌ ، ولا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعراب . و " صِدِّيقَةٌ " تأنيثُ " صِدِّيق " وهو بناء مبالغة ك " فَعّال " و " فَعُول " إلا أنه لا يعمل عملَ أمثلةِ المبالغة ، فلا يقال : " زيدٌ شِرِّيبٌ العسلَ " كما يقال : " شَرَّابٌ العسلَ " وإن كان القياس إعمالَه ، وهل هو مِنْ " صَدَق " الثلاثي أو من " صَدَّق " مضعفاً ؟ القياسُ يقتضي الأولَ ، لأنَّ أمثلةَ المبالغةِ تَطَّرِدُ من الثلاثي دونَ الرباعي ، فإنه لم يَجيء منه إلا القليلُ . وقال الزمخشري : " انه من التصديق " وكذا ابنُ عطية ، إلا أنَّه جَعَله محتملاً ، وهذا واضحٌ لقوله : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا } فقد صَرَّح بالفعلِ المسند إليها مضعفاً .

وقوله : { كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ } لا محلَّ له لأنه اسئنافٌ وبيان لكونِهما كسائرِ البشرِ في احتياجِهما إلى مايَحْتاج إليه كلُّ جسمٍ مُولَدٍ ، والإلهُ الحقُّ منزَّهٌ عن ذلك . وقال بضعهم : " هو كناية عن احتياجهما إلى التغَوُّطِ " ولا حاجة إليه . قوله : " كيف " منصوب بقوله : " نُبَيِّن " بعده ، وتقدم ما فيه في قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] وغيرِه ، ولا يجوز أن يكونَ معمولاً لِما قبله لأن له صدرَ الكلام ، وهذه الجملةُ الاستفهامية في محلِّ نصب لأنها معلقةٌ للفعل قبلها . وقوله : { ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } كالجملةِ قبلَها ، " وأَنَّى " بمعنى كيف ، و " يُؤْفكون " ناصبٌ ل " أنَّى " ويُؤْفكون : بمعنى يُصْرَفُون .