الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فِيٓ أَيِّ صُورَةٖ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} (8)

قوله : { فِي أَىِّ صُورَةٍ } : يجوز فيه أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ يتعلَّقُ ب " رَكَّبَكَ " و " ما " مزيدةٌ على هذا ، و " شاءَ " صفةٌ ل " صورةٍ " ، ولم يَعْطِفْ " رَكَّبَكَ " على ما قبله بالفاءِ ، كما عَطَفَ ما قبلَه بها ؛ لأنه بيانٌ لقولِه : " فَعَدَلَكَ " . والتقدير : فَعَدَلَكَ : ركَّبك في أيِّ صورةٍ من الصورِ العجيبةِ الحسنةِ التي شاءها . والمعنى : وَضَعَكَ في صورةٍ اقتضَتْها مَشيئتُه : مِنْ حُسْنٍ وقُبْحٍ وطُولٍ وقِصَرٍ وذُكورةٍ وأُنوثةٍ . الثاني : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ ، أي : رَكَّبك حاصلاً في بعض الصور . الثالث : أنه يتعلَّقُ بعَدَلَكَ ، نقله الشيخ عن بعض المتأوِّلين ، ولم يَعْتَرِضْ عليه ، وهو مُعْتَرَضٌ : بأنَّ في " أيّ " معنى الاستفهام ، فلها صدرُ الكلام فكيف يعمل فيها ما تقدَّمَها ؟

وكأنَّ الزمخشري استشعر هذا فقال : " ويكونُ في " أيّ " معنى التعجبِ ، أي : فَعَدَلَكَ في أيِّ صورةٍ عجيبةٍ " . وهذا لا يَحْسُنُ أَنْ يكونَ مُجَوِّزاً لِتَقَدُّمِ العاملِ على اسمِ الاستفهامِ ، وإنْ دَخَلَه معنى التعجب . ألا ترى أنَّ كيف وأنَّى وإنْ دَخَلهما معنى التعجبِ لا يتقدَّم عاملُهما عليهما . وقد اختلف النحويون في اسم الاستفهام إذا قُصِدَ به الاستثباتُ : هل يجوزُ تقديمُ عاملِه أم لا ؟ والصحيح أنه لا يجوزُ ، وكذلك لا يجوز أن يتقدَّمَ عاملُ " كم " الخبريةِ عليها لشَبَهِها في اللفظ بالاستفهاميةِ فهذا أَوْلَى ، وعلى تعلُّقِها ب " عَدَلَكَ " تكون " ما " منصوبةً ب " شاء " ، أي : رَكَّبَكَ ما شاءَ من التركيبِ ، أي : تركيباً حَسَناً ، قاله الزمخشري ، فظاهرُه أنها منصوبةٌ على المصدر .

وقال أبو البقاء : " ويجوز أَنْ تكونَ " ما " زائدةً ، وأَنْ تكونَ شرطيةً ، وعلى الأمرَيْن : الجملةُ نعتٌ ل " صورة " ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : رَكَّبك عليها . و " في " تتعلَّقُ ب " رَكَّبك " . وقيل : لا موضعَ للجملةِ ؛ لأن " في " تتعلَّقُ بأحد الفعلَيْن ، والجميعُ كلامٌ واحدٌ ، وإنما تقدُّمُ الاستفهامِ على " ما " هو حَقُّه . قوله : " بأحد الفعلَيْنِ " يعني : شاءَ ورَكَّبك . وتَحَصَّل في " ما " ثلاثةُ أوجهٍ : الزيادةُ ، وكونُها شرطيَّةً ، وحيئنذٍ جوابُها محذوفٌ ، والنصبُ على المصدريةِ ، أي : واقعةٌ موقعَ مصدرٍ .