البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱللَّهِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَتۡهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغۡتَةٗ قَالُواْ يَٰحَسۡرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطۡنَا فِيهَا وَهُمۡ يَحۡمِلُونَ أَوۡزَارَهُمۡ عَلَىٰ ظُهُورِهِمۡۚ أَلَا سَآءَ مَا يَزِرُونَ} (31)

البغت والبغته : الفجأة يقال بغته يبغته أي فجأه يفجأه وهي مجيء الشيء سرعة من غير جعل بالك إليه وغير علمك بوقت مجيئه .

فرط قصر مع القدرة على ترك التقصير .

وقال أبو عبيد : فرّط ضيّع .

وقال ابن بحر : فرّط سبق والفارط السابق ، وفرط خلى السبق لغيره .

الأوزار : الآثام والخطايا وأصله الثقل من الحمل ، وزرته جملته وأوزار الحرب أثقالها من السلاح ، ومنه الوزير لأنه يحمل عن السلطان أثقال ما يسند إليه من تدبير ملكه .

{ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها } هذا استئناف إخبار من الله تعالى عن أحوال منكري لبعث وخسرانهم أنهم استعاضوا الكفر عن الإيمان فصار ذلك شبيهاً بحالة البائع الذي أخذ وأعطى وكان ما أخذ من الكفر سبباً لهلاكه وما أعطاه من الإيمان سبباً لنجاته ، فأشبه الخاسر في صفقته العادم الربح ورأس ماله ، ومعنى { بلقاء الله } بلوغ الآخرة وما يكون فيها من الجزاء ورجوعهم إلى أحكام الله فيها و { حتى } غاية لتكذيبهم لا لخسرانهم ، لأن الخسران لا غاية له والتكذيب مغيا بالحسرة لأنه لا يزال بهم التكذيب إلى قولهم { يا حسرتنا } وقت مجيء الساعة ، وتقدم الكلام على { حتى إذا } في قوله : { حتى إذا جاؤوك يجادلونك } ومعنى { بلقاء الله } بلقاء جزائه والإضافة تفخيم وتعظيم لشأن الجزاء وهو نظير « لقي الله وهو عليه غضبان » ، أي لقي جزاءه ومن أثبت أن الله تعالى في جهة استدل بهذا ، وقال : اللقاء حقيقة و { الساعة } يوم القيامة سمّى ساعة لسرعة انقضاء الحساب فيها للجزاء لقوله : { أسرع الحاسبين } قال ابن عطية : وأدخل عليها تعريف العهد دون تقدم ذكرك لشهرتها واستقرارها في النفوس وذياع ذكرها ، وأيضاً فقد تضمنها قوله { بلقاء الله } انتهى .

ثم غلب استعمال { الساعة } على يوم القيامة فصارت الألف واللام فيها للغلبة كهي في البيت للكعبة والنجم للثريا .

وقال الزمخشري ( فإن قلت ) : إنما يتحسرون عند موتهم ( قلت ) : لما كان الموت وقوعاً في أحوال الآخرة ومقدماتها ، جعل من جنس الساعة وسمّي باسمها ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من مات فقد قامت قيامته » .

وجعل في مجيء الساعة بعد الموت لسرعته فالواقع بغير فتره ؛ انتهى .

وإطلاق { الساعة } على وقت الموت مجاز ، ويمكن حمل الساعة على الحقيقة وهو يوم القيامة ولا يلزم من تحسرهم وقت الموت أنهم لا يتحسرون يوم القيامة ، بل الظاهر ذلك لقوله : { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } إذ هذا حال من قولهم : { قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها } وهي حال مقارنة ، وإذا حملنا الساعة على وقت الموت كانت حالاً مقدرة ومجيء القدرة بالنسبة إلى المقارنة قليل ، فيكون التكذيب متصلاً بهم مغياً بالحسرة إلى يوم القيامة إذ مكثهم في البرزخ على اعتقاد أمثلهم طريقة يوم واحد ، كما قال تعالى :

{ إن لبثتم إلا يوماً } فلما جاءتهم الساعة زال التكذيب وشاهدوا ما أخبرتهم به الرسل عياناً فقالوا { يا حسرتنا }

وجوزوا في انتصاب { بغتة } أن يكون مصدراً في موضع الحال من { الساعة } أي باغتة أو من مفعول جاءتهم أي مبغوتين أو مصدراً لجاء من غير لفظه كأنه قيل حتى إذا بغتتهم الساعة بغتة ، أو مصدر الفعل محذوف أي تبغتهم بغتة ونادوا الحسرة وإن كانت لا تجيب على طريق التعظيم .

قال سيبويه : وكان الذي ينادي الحسرة أو العجب أو السرور أو الويل يقول : اقربي أو احضري فهذا أوانك وزمنك وفي ذلك تعظيم للأمر على نفس المتكلم وعلى سامعه إن كان ثم سامع وهذا التعظيم على النفس والسامع هو المقصود أيضاً في نداء الجمادات كقولك يا دار يا ربع وفي نداء ما لا يعقل كقولهم : يا جمل ، و { فرطنا } قصرنا والتفريط التقصير مع القدرة على تركه ، والضمير في { فيها } عائد على { الساعة } أي في التقدمة لها قاله الحسن ، أو الصفقة التي تضمنها ذكر الخسارة قاله الطبري .

وقال الزمخشري : الضمير للحياة الدنيا جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة ، أو الساعة على معنى قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها كما تقول : فرطت في فلان ومنه { فرطت في جنب الله } انتهى .

وكونه عائداً على الدنيا وهو قول ابن عباس ، ودل العقل على أن موضع التقصير ليس إلا الدنيا فحسن عوده عليها لهذا المعنى وأورد ابن عطية هذا القول احتمالاً فقال : يحتمل أن يعود الضمير على الدنيا ، إذ المعنى يقتضيها وتجيء الظرفية أمكن بمنزلة زيد في الدار ؛ انتهى ، وعوده على { الساعة } قول الحسن والمعنى في إعداد الزاد والأهبة لها .

وقيل : يعود الضمير على { ما } وهي موصول وعاد على لمعنى أي { يا حسرتنا } على الأعمال والطاعات التي فرطنا فيها ، وما في الأوجه التي سبقت مصدرية التقدير على تفريطنا في الدنيا أو في الساعة أو في الصفقة على التقدير الذي تقدم ، والظاهر عوده على الساعة وأبعد من ذهب إلى أنه عائد إلى منازلهم في الجنة إذا رأوا منازلهم فيها لو كانوا آمنوا .

{ وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } الأوزار الخطايا والآثام قاله ابن عباس ، والظاهر أن هذا الحمل حقيقة وهو قول عمير بن هانئ وعمرو بن قيس الملائي والسدي واختاره الطبري ، وما ذكره محصوله أن عمله يمثل في صورة رجل قبيح الوجه والصورة خبيث الريح فيسأله فيقول : أنا عملك طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك فيركبه ويتخطى به رقاب الناس ويسوقه حتى يدخله النار ، ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى واللفظ مختلف .

وقيل : هو مجاز عبر بحل الوزر عن ما يجده من المشقة والآلام بسبب ذنوبه ، والمعنى أنهم يقاسون عقاب ذنوبهم مقاساة تثقل عليهم وهذا القول بدأ به ابن عطية ولم يذكر الزمخشري غيره قال كقوله : { فبما كسبت أيديكم } لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور كما ألف الكسب بالأيدي والواو في { وهم } واو الحال وأتت الجملة مصدرة بالضمير لأنه أبلغ في النسبة إذ صار ذو الحال مذكوراً مرتين من حيث المعنى وخص الظهر لأنه غالباً موضع اعتياد الحمل ولأنه يشعر بالمبالغة في ثقل المحمول إذ يطيق من الحمل الثقيل ما لا تطيقه الرأس ولا الكاهل ، كما قال { فلمسوه بأيديهم } لأن اللمس أغلب ما يكون باليد ولأنها أقوى في الإدراك .

{ ألا ساء ما يزرون } { ساء } هنا تحتمل وجوهاً ثلاثة .

أحدها : أن تكون المتعدية المتصرفة ووزنها فعل بفتح العين والمعنى ألا ساءهم ما يزرون ، وتحتمل { ما } على هذا الوجه أن تكون موصولة بمعنى الذي ، فتكون فاعلة ويحتمل أن تكون { ما } مصدرية فينسبك منها ما بعدها مصدر هو الفاعل أي ألا ساءهم وزرهم .

والوجه الثاني : أنها حوّلت إلى فعل بضم العين وأشربت معنى التعجب والمعنى ألا ما أسوأ الذي يزرونه أو ما أسوأ وزرهم على الاحتمالين في ما .

والثالث : أنها أيضاً حوّلت إلى فعل بضم العين ، وأريد بها المبالغة في الذمّ فتكون مساوية لبئس في المعنى والأحكام ، ويكون إطلاق الذي سبق في { ما } في قوله : { بئسما اشتروا به أنفسهم } جارياً فيها هنا ، والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أن الذي قبله لا يشترط فيه ما يشترط في فاعل بئس من الأحكام ولا هو جملة منعقدة من مبتدإ وخبر ، إنما هو منعقد من فعل وفاعل والفرق بين هذين الوجهين والأوّل أن في الأول الفعل متعد وفي هذين قاصر ، وإن الكلام فيه خبر وهو في هذين إنشاء وجعل الزمخشري من باب بئس فقط فقال : { ساء ما يزرون } بئس شيئاً يزرون وزرهم كقوله : { ساء مثلاً القوم } وذكر ابن عطية هذا الوجه احتمالاً أخيراً وبدأ بأن { ساء } متعدية و { ما } فاعل كما تقول ساء في هذا الأمر وإن الكلام خبر مجرد .

قال كقول الشاعر :

رضيت خطة خسف غير طائلة *** فساء هذا رضا يا قيس عيلانا

ولا يتعين ما قال في البيت من أن الكلام فيه خبر مجرد ؛ بل يحتمل قوله : فساء هذا رضا الأوجه الثلاثة وافتتحت هذه الجملة ب { إِلا } تنبيهاً وإشارة لسوء مرتكبهم فألا تدل على الإشارة بما يأتي بعدها كقوله : ألا فليبلغ الشاهد الغائب

{ ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه } ألا لا يجهلن أحد علينا .